صلاح الوديع يكتب: طفل الفراغ ونبض الآدمية

“فعلتها لأنه طفل”. “وسأفعلها مرة أخرى لو تطلب الأمر…”

هو “مامودو”. لا يمكن لأي كان أن يجهل هذا الاسم بعد اليوم.

مامودو. الشاب المالي الذي تسعفه البطولة ولا تسعفه الكلمات. الشاب الذي يبكينا حين نعيد مشاهدة الثواني التي أصبح فيها بطلا في أعيننا جميعا، أبناء جلدته وأبناء جلدة الآخرين. بلا لجنة تحكيم، بلا فرق ولا ميز ولا تردد ولا ادعاء. قفز يمشي على بلور الفضاء، يطير على الحرير الهفهاف: الطابق الأول ثم الثاني فالثالث وأخيرا الرابع. يصل مامودو إلى قلوبنا قبل أن يستقر أخيرا ويمسك بذراع الطفل المتروك لوحده بين الحياة والفراغ.

يا له من “نحنٍ” يحمل الحلم منذ فجر البشرية. يا لها من بساطة وقوة وشراسة في التعبير عن الحب. حب الحياة والحرص عليها والحدب والكلأ… يا لها من خفة في الذهاب إلى الإيثار، يا لها من لباقة في الجهر بمساواة الكل أمام الحق في النجاة… يا له من تكثيف مصاغ بحروف العفوية التي لا يرد لها طلب…

هو الشاب الآتي من رحم إفريقيا بسحنة يكاد يسطع منها سواد البشرة البراق. بلا مقدمات ولا تحضير ولا تنميق… هكذا هي المعادلة: إنسان من أسرة البشرية الحالمة بتحقيق ذاتها منذ الأزل، يتقدم بلا هوية ولا أوراق تعريف. يتقدم. يطير بجناح الحب والتضامن. يحلق فوق حضاراتنا جميعا. فوق تباهياتنا الخرقاء: هذا بعِلمه وذاك بتكنولوجياه والآخر بدينه والرابع بلونه والخامس بماله… مامودو المنبلج من درع الألم، المحمول على جناح الآدمية، الراضع من ضرع الأخوة التي لا تعترف بحساب الربح والخسارة.

كيف وصل مامودو إلى حضارة اليوم وهو يصارع أهوال الموج في عرض المتوسط، وهو يحاول الإفلات للقبر المائي المالح الفاغر فاه أمام الهاربين من الحروب الأهلية والجوع والعطش؟ كيف كان ذلك؟ يجيب مامودو بعفوية البسطاء: “كنا كثيرين على متن القارب الذي جاء بنا من إفريقيا إلى إيطاليا. كثيرين كنا، نحمل الخوف ويحملنا، نتحاشى الألم ويغشانا، نهرب من الجوع والفقر والفقد والموت المتربص… كثيرين كنا، بلا عدد ولا هويات غير الضياع المبرمج في جينات العالم الظالم اليوم…” .

يجلس مامودو بلا عقدة أمام رئيس دولة فرنسا ليحكي من جديد. ليحكي حماقة قلبه التي لا يستوي أمامها تعقُّل ولا استباق ولا تحضير، كي يدخل التاريخ من بوابة القلب، قلبنا جميعا…

لم تكن هناك لجن تحكيم ولا أضواء. كان هناك فقط هاتف محمول يوثق لفرحتنا بنجاة طفل لا نعرف عنه إلا أنه طفل وكفى. أما لجنة التحكيم التي تشكلت خلال الثواني السبعة والأربعين التي قضاها مامودو في الفضاء الخارجي لجزعنا المشروع على طفل لا نعرفه، فهي قلوب البشرية جمعاء، وأما شروط استحقاق الفوز فهي مكتوبة منذ الأزل في وجدان كل من ينتمي للجنس البشري اليوم وغدا وبعد غد…


بسبب العطلة المدرسية.. بلاغ هام من الشركة الوطنية للطرق السيارة

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى