حينما اقترب الجيش المغربي من تيندوف
كل شيء بدأ في بدايات العقد السادس من القرن الماضي، وبالضبط في سنة 1963، وإن شئتم مباشرة بعد عودة الملك الراحل من الزيارة التي قام بها للجارة الجزائر، وكانت مناسبة لمناقشة موضوع الحدود التي خلفها الاستعمار الفرنسي، وحينها أكد الرئيس الجزائري أحمد بن بلة للملك الراحل أن الجزائريين لن يكونوا ورثة للتركة الاستعمارية في موضوع الحدود المغربية الجزائرية.
ومباشرة بعد عودة الملك الراحل والوفد المرافق له إلى المغرب، تواترت بقوة أخبار من الجارة الشرقية عن مساندة المغرب لثورة القبائل الجزائرية والسعي لزعزعة الاستقرار الجزائري.
وإذا تابعنا المعطيات الكثيرة في مذكرات الراحل عبد الهادي بوطالب الذي كان مستشارا للملك الحسن الثاني، فقد انتقلت الحملة من الإعلام الجزائري إلى الإعلام المصري، حيث ” كان معروفا تعاطف مصر مع الجزائر، وما كان يجمع الرئيس عبد الناصر والرئيس بن بلا من وشائج، إذ كان الأول يراهن على أن يحمل الثاني في منطقة المغرب العربي لواء القومية العربية الناصرية امتدادا للنظام المصري الذي كان يبحث عن مدخل له لهذه المنطقة. وكان الرئيس بن بلا يؤهل نفسه للعب هذا الدور الريادي، ويهتدي في توجهاته وشعاراته بهدي فلسفة الثورة المصرية”.
لقد حاول الملك الراحل احتواء هذه الأزمة، يقول بوطالب دائما، بأن كلف سفيره في الجزائر محمد عواد بالاتصال بالرئيس الجزائري لشرح الموقف المغربي مما يحدث من طرف الجزائر، ثم اجتمع وزير خارجية المغرب أحمد رضا كديرة بوزير خارجية الجزائر عبد العزيز بوتفليقة في وجدة فصدر بلاغ مشترك أطلق عليه اسم بلاغ الوفاق، لكن هذا الوفاق لم يدم طويلا، حيث هاجم بعدها الجيش الجزائري مركزي “حاسي بيضا” و “تنجوب” على الحدود المغربية الجزائرية وهما مركزين لا مشكل بين المغرب والجزائر حولهما.
ولم تقف هجومات الجيش الجزائري عند هذين المركزين، بل امتدت يوما واحدا بعد بلاغ الوفاق إلى الهجوم على مركز « إيش » العسكري الواقع على بعد خمسين كيلومترا من شمال شرق مدينة فكيك بالقرب من وجدة، بل شارك الجيش الجزائري، حسب عبد الهادي بوطالب دائما، على منطقة تندرارة في إقليم وجدة دائما : «وجيمع هذه المناطق لم تكن موضوع نزاع بين الدولتين، لأنها تقع في التراب المغربي الذي ظل تحت سلطة المغرب طيلة الحماية الفرنسية وإلي حين إعلان الاستقلال، ولم تقتطعه فرنسا من المغرب أبدا، كما أن هذه المناطق تبعد بألف كيلومتر عن مركزي «حاسي بيضا» و «تنجوب»، فلا يمكن اعتبار الهجوم عليها مجرد حادث حدود»، يقول المستشار الملكي في مذكراته « نصف قرن من السياسة».
أرسل الملك الراحل برقية للرئيس الجزائري بن بلة لإثارة انتباهه لحجم العدوان المرتكب على المناطق الحدودية المغربية، باعتبارها أعمال عدوانية على تراب مغربي، ولن تساهم في خلق جو ملائم لحل المشاكل عن طريق التفاوض والحوار، لكن الرئيس الجزائري لم يرد على برقية الملك، ثم أرسل بعدها وفدا مكونا من أحمد بلافريج وعبد الهادي بوطالب « لكننا لم نجد من الرئيس استعدادا لحوار بناء »، ثم أرسل وفدا مكونا من عبد الهادي بوطالب ومدير ديوانه العسكري الكومندان محمد المذبوح … فلنتابع ما دار بين الطرفين على لسان عبد الهادي بوطالب في نفس المرجع : «وابتدأ الحديث مع الرئيس بن بلا في جو متشنج. وكنت أحاول أن أُلطِف حدته شكلا دون تساهل في العمق. «فالمغرب متشبث بترابه المدمَج من فرنسا في التراب الجزائري وبالمطالبة بإرجاعه طبقا للحجج المؤيدة له، ولكن عن طريق التفاوض والحوار. والمغرب يعتقد أن حوادث العدوان مُفتعلة من عناصر جزائرية، ويأمل أن لا يكون العدوان من عمل الحكومة الجزائرية وبإرادتها. والمغرب يعتبر أن ما وقع خطير، ولكن قد توفر خطورتُه الجو الملائم للإسراع بالدخول في المفاوضات، إذ ترْك الحال على ما هي عليه مؤذن بتفجير أحداث أخرى قد لا يسهل احتواؤها».
وانتظرت وأنا أحاول أن أفتح أقفال الرئيس أن يسلك من أحدها إلى تجاوز الأحداث بإعطاء تطمينات عن نوايا الجزائر والوعد باحترام التزاماتها في المستقبل، يضيف عبد الهادي بوطالب، فلم يُسعِفني الرئيس ببارقة مهدئة لجو التشنج الذي كانت تبدو ملامحه فوق وجهه، واندفع يطلق لسانه بما يفضح طوايا صدره … لم يقدم الرئيس اعتذارا عما حصل، ولم يقل كلمة واحدة عن ضحايا العدوان المغاربة، ولم يطلب مني أن أنقل لجلالة الملك أية عبارة للمواساة والعزاء في الضحايا، بل في انفعال مثير قال: «إن مشكلة الحدود مشكلة وهمية ويجب السكوت عنها في الوقت الحاضر لتجاوزها فيما يستقبل»…
تعطلت لغة الحوار، وتوقفت كل أهداف المساعي الحميدة، وتطورت الأمور إلى الحرب التي سميت حرب الرمال والتي استمرت ثلاثة أيام «استرجع فيها المغرب بالقوة بعض ما أخذته الجزائر بالقوة والعدوان، وتوغل الجيش المغربي يقوده الضابط العسكري الكبير العقيد إدريس بن عمر حتى أصبح على بعد 26 كيلومترا فقط من مدينة تيندوف المغربية التي تحتلها الجزائر»، يقول عبد الهادي بوطال ثم يضيف:« وأود هنا أن أخرج ورقة من مذكراتي عن هذه الفترة لأقول إن الجيش المغربي قَبِل على مضض أن يتوقف القتال طبقا لأمر جلالة الملك. وأنني حضرت مشهدا دراميا عندما جاء إلى مراكش قادما من الجبهة الكولونيل( العقيد) إدريس بن عمر الذي كان على رأس الجيش المغربي واستقبله جلالة الملك بحضور الحاج أحمد بلافريج وأحمد رضا كديرة وعبد الهادي بوطالب فخلع الكولونيل «جاكيتته» التي كانت تحمل أوسمته العسكرية ووضعها جنب الملك الحسن الثاني في إشارة منه إلى الاستقالة وقال : «مولاي لا يُقبل في المنطق الحربي والتقاليد العسكرية أن يعود جيش منتصر إلى منطلقاته الأولى كجيش منهزم». وطالب بأن تبقى وحدات الجيش المغربي حيث كانت إلى حين تسوية مشكلة الحدود. ولكن الملك الحسن الثاني صاح في وجهه أن يرتدي «جاكيتته» وأن يمتثل لأمر القائد الأعلى للجيش فتراجع الضابط العسكري الشهم، ورجع جيش المغرب إلى قواعده الأولى. وكان موقف الملك الحسن الثاني يعبر عن رغبته الصادقة في أن يعاد مدُّ الجسور بينه وبين الجزائر، وأن لا يُقطَع الطريق على إقامة المغرب العربي (الخيارِ الاستراتيجي الدائمِ للمغرب). وبالفعل حضر الملك الحسن الثاني الاجتماع التاريخي في باماكو (مالي) أواخر أكتوبر سنة 1963 وطُوي الملف المغربي ـ الجزائري إلى حين».
إنها صفحة من الصفحات المتوترة بين بلدين جارين يتمنى الكثير من أصحاب النوايا الحسنة لكي تكون جزءا من الماضي، وأن يتوجه الجميع إلى المستقبل الذي يجمع بين شعبين يربط بينهما الكثير مما قد يكون مفرقا بيهما .. الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا … والمستقبل.