يوسف شهاب يكتب: رهانات الخريطة الدبلوماسية الجديدة للمغرب

الدكتور يوسف شهاب: أستاذ العلوم الجيوستراتيجية و التنمية الدولية بجامعة الصربون بباريس ومدير أبحاث بالمركز الفرنسي للدراسات الإستعلاماتية

*الفترة الدبلوماسية الصعبة
مرت الدبلوماسية المغربية مند اندلاع النزاع المفتعل حول سيادة المغرب عن الصحراء الأطلسية بفترات مد و جزر كان فضاؤها الإفريقي هو المسرح و المستفيد الأول من صراع الريادة و الشرعية بين المغرب و الجزائر في إطار ما يعرف بالحرب الباردة أدت في فترات الى انتكاسات دبلوماسية للمغرب و انتصارا للجزائر لقدرتها على شراء الذمم و توظيف مفاهيم جيوسياسية تتعاطف معها دول إفريقيا الحديثة العهد بالاستقلال كحق الشعوب في تقرير مصيرها و حرب التحرير و التشبت بمبدأ عدم تغيير الحدود الموروثة عن الاستعمار.

بحيث اعتمدت الرباط دبلوماسية المواقف على حساب دبلوماسية المصالح فأصبح المغرب حينها معزولا دبلوماسيا مما أدى الى قطع علاقاته الدبلوماسية مع أكثر من خمسة عشر دولة و مغادرة منظمة الوحدة الافريقية أنداك و التركيز على بناء الجدار الأمني و الجلوس الى طاولة المفاوضات مع جبهة البوليساريو و قبول وقف اطلاق النار و السماح للأمم المتحدة ببعث قوات أممية فوق الأراضي المغربية و الخضوع لابتزازات المنظمات الغير الحكومية حول اشكالية حقوق الانسان و أخيرا استنزاف الموارد البشرية و المالية أدت به الى اللجوء الى صندوق النقد الدولي و الخضوع الى شروطه التي أدت أيضا الى نقل أزمة الصحراء الى داخل المملكة و اندلاع حركات اجتماعية و اصطدمات بين قوات الأمن و المتظاهرين و الأخطر من كل هذا هو أنه أصبحت الجزائر تراهن و توظف مليارات الدولارات على سقوط النظام الملكي في حالة الاعلان عن استقلال الأقاليم الجنوبية عن سيادة المغرب. و استمر الوضع على ما هو عليه حيث استطاع المغرب في قبوله بكل هذه الضغوطات أن يفرض سياسة الأمر الواقع بتمديد أجندات المفاوضات العقيمة مع جبهة البوليساريو الجزائرية و ذلك عن طريق التواجد الأممي بالمنطقة و الخضوع للزمن الأممي الذي وافق على تمديد قوات المينورسو لمدة عشرين سنة 1991 –2021 حيث كان الملك الراحل الحسن الثاني أمام نظرية “أن الحل هو ألاحل” و أن الحدود السيادية للمغرب في الصحراء تتوقف على رمال الجدار الأمني تاركا أكثر من 52400 كلم مربع في وضع غير قانوني تنعته الأمم المتحدة بالمنطقة العازلة وينعته المغرب بالأراضي الغير المعسكرة تفاديا لأي اشكال عسكري مع الجزائر بينما تعتبره جبهة البوليساريو مناطق محررة. و في هذه الظرفية السياسية و التاريخية كان الملف حصريا بيد وزير الداخلية الراحل ادريس البصري الذي كان يخلط بين مفهوم الأمن الداخلي ومفهوم الأمن القومي انطلاقا من مقاربته الأمنية و انتهاكه لحقوق الانسان مما أدى الى تصدع جزئي في المشهد السياسي المغربي و ظهور حركات معارضة تنادي بانسحاب المغرب من الصحراء و توظيف هذا الملف ضد النظام الملكي.

* التحول الدبلوماسي الجدري
مند اعتلاء الملك محمد السادس على عرش المملكة بدأت الخطوط تتغير و بدأ الملك الشاب في اعادة قراءة هذا الملف الشائك و اصلاح المنظومة الجيو دبلوماسية المغربية و ذلك عن طريق بلورة استراتيجية جديدة لإعطاء نفس جديد لقضية الوحدة الترابية ترتكز على حزمة من الخيارات و التي من شأنها إعادة رسم الطريق السياسي الجديد عبر بعض الأوراش التي بدأت تعطي ثمارها اليوم.
* طي صفحة سنوات نفوذ البصري و احتكاره لهذا الملف الحساس و ذلك عن طريق إقالته و فتح ورش المصالحة الوطنية واحترام حقوق الانسان في الأقاليم الجنوبية.
* هندسة الديمقراطية بالأقاليم الجنوبية بإفراز نخب سياسية صحراوية لتسيير الجماعات المحلية و ضخ أموال طائلة في تنمية هذه الأقاليم بسياسة اندماجية حيث أصبحت مدينتي العيون و الداخلة من أهم الأقطاب الحضرية بالمغرب.
* اقتراح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي و قابل للتطبيق ومن شأنه أن يحفظ دم وجه الجميع الشئ الذي أدى بالإدارة الأمريكية الى دعم المغرب ودفع بالأمم المتحدة الى إقحام الجزائر و موريطانيا في المفاوضات بعد أن كانت تروج لأطروحة كاذبة مفادها أن الجزائر هي فقط حاضنة للاجئين و ليست طرفا في النزاع.
* الخروج من دبلوماسية المواقف و اعتماد دبلوماسية المصالح و ذلك بإعلان المغرب العودة الى الإتحاد الافريقي رغم وجود جبهة البوليساريو بأحضانها. حيث في السابق ارتكب المغرب خطأ دبلوماسيا كان ينبني على مبدأ إما داخل القارة أو خارجها. و بدأت الدبلوماسية المغربية تتحرك على هوامش بعيدة أن اللغط القانوني و السياسي الذي كانت و لازالت الجزائر هي من يحركه بدبلوماسية الحقائب المالية حيث انفقت ما يعادل 400 مليار دولار كرشاوى لدول تقايض تصويتها في سوق و كواليس الفساد الممنهج بالإتحاد الأفريقي.
* انتشار الدبلوماسية الاقتصادية عن طريق الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية (الأبناك – الخدمات – الاتصالات الرقمية – الصيدلة – البنيات التحتية – النقل الجوي الرابط بين افريقيا و أوروبا …) مما أدى بكثير من الدول الإفريقية الى مراجعة مواقفها الإديولوجية و الذهاب قدما الى دبلوماسية المصالح. و بذلك أصبح المغرب رابع مستثمر دوليا في افريقيا بعدفرنسا الصين وافريقيا الجنوبية.
*انتشار الدبلوماسية المغربية في حل الأزمات السياسية التي مزقتها الحروب الأهلية كليبيا و مالي و ساحل العاج و بعث أكثر من 1200 جندي مغربي تحت لواء الأمم المتحدة لحفظ السلام في كـل من الكونغو و افريقيا الوسطى و ساحل العاج وليبيريا.
* انتشار الدبلوماسية الروحية في دول الساحل و الصحراء بتكوين الأئمة و المرشدات على أساس الاسلام المعتدل أمام انتشار الفكر الجهادي و الارهاب بتنسيق مع فرنسا و الولايات الأمريكية المتحدة.
* كسب المغرب خبرة تشهد بها كبريات الدول في مكافحة الارهاب و أصبح المغرب مرجعية افريقية و حليفا استراتيجية لتأمين الصحراء و الساحل من خطر التطرف و الخطاب الديني الجهادي.
* انتشار الدبلوماسية المغربية داخل المنظومة العالمية حول ملف الصحراء و الأطروحة المغربية (الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية) بدأ يعطي ثماره من حيث أن ما يقارب 80 دولة سحبت اعترافها بجبهة البوليساريو وفتح ما يقارب 20 قنصلية بالأقاليم الجنوبية.
* اعتراف الأمم المتحدة و الاتحاد الإفريقي و الإتحاد الأوروبي بكون أن ملف الصحراء المغربية هو ملف حصري بيد الأمم المتحدة و تحت رعايتها.
* و على ضوء كل هذه التغيرات و ادراك الولايات المتحدة الأمريكية أن المغرب تبنى بنيويا دبلوماسية المصالح و ابتعد عن دبلوماسية المواقف و التي لازالت الجزائر هي الدولة الوحيدة قاريا و دوليا التي تتمسك بهذه العقيدة المتقادمة. ومن جهة أخرى أدركت أمريكا أيضا أن الطرح المغربي هو الأقرب للتطبيقية و الواقعية كما أدركت كل من الصين, بريطانيا, فرنسا و روسيا أن خلق دويلة كارتونية بشمال غرب افريقيا هو وهم سياسي و خطر استراتيجي. و هذا ما يفسر في الحقيقة قرار أمريكا بالاعتراف بمغربية الصحراء و حثها باسم دبلوماسية المصالح على ربط علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية لإخراج المغرب , على غرار مصر السودان، الأردن، الإمارات العربية المتحدة, من دبلوماسية المواقف العقيمة العربية و التي تريد السلام مع اسرائيل دون الاعتراف بها.
على ضوء هذا الجرد و التحليل السياسي لملف الوحدة الترابية و جائحة كورونا التي استطاع المغرب أن يحتوي خطرها ويحتل المرتبة الخامسة عالميا حسب المنظمة العالمية للصحة يجب على المغرب التفكير في رسم الخريطة الدبلوماسية للعشرية الثالثة لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية و ذلك للدفع بالمغرب الى إنهاء هذا الخلاف الذي طال أمده والتعجيل بسرعة نمو فعلي على مستوى القارة الافريقية و التي تعتبر العمق الحقيقي الاستراتيجي للمغرب. و هذه بعض التوصيات لبلورة هذه الخريطة الدبلوماسية 2021– 2031.

الدبلوماسية الإستشرافية للعشرية الثالثة
* إعادة ترسيم الحدود مع الجارة الموريتانية الى ما يعرف قانونيا بالكيلومتر صفر لتحصين الواجهة الأطلسية من الاختراقات وتغلغل الجريمة المنظمة أو الإرهاب الجهادي حتى لا تتكرر أزمة الكركرات.
* العمل الدبلوماسي للتشطيب على ملف الصحراء من اللجنة الرابعة أو ما يعرف بلجنة تصفية الاستعمار و ذلك على ضوء المواقف الدولية الجديدة إبان فتح قنصلية أمريكية بمدينة الداخلة.
* التحرك الدبلوماسي الفاعل و الفعال لإعادة ديباجة مهمة المينورسو لأنها لم يعد بصلاحيتها تنظيم الاستفتاء و لا مراقبة حقوق الإنسان بالمنطقة الجنوبية للمغرب.
* بناء استراتيجية دبلوماسية و اقتصادية جديدة على أساس مبدأ ما يعرف في العلاقات الدولية بالدوائر المركزية للتعاون أو التنسيق بين مجموعة من الدول. فالقارة الافريقية لا يجسد إتحادها إلا مبدأ الجغرافيا. فليست لها سياسة اقتصادية, جمركية, نقدية أو أمنية مندمجة, و بالتالي يجب على المغرب اعتبار القارة الافريقية كفضاءات متنوعة و غير متجانسة للتعاون الشامل. و حتى تتضح هذه المقاربة الجديدة, يمكن اعتماد نظرية الدوائر المركزة بأوروبا: فجغرافيا هناك 51 دولة تنتمي الى القارة الأوروبية وفق المعيار الجغرافي الصرف و هذه هي الدائرة القصوى أو الكبرى و التي لا تخضع لنفس المنظومة القانونية. تليها الدائرة الثانية و هي التي تكون الإتحاد الأوروبي بعدد 27 دولة بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. و هذه الدول خاضعة لمعاهدات تؤطر الشأن الاقتصادي و السياسي دون اندماج كلي و شامل. ثم تليها الدائرة الثالثة و المتعلق بما يعرف بمنطقة شانكن و التي أصبحت الحدود السيادية رمزية و يصل عددها الى 26 دولة. و أخيرا الدائرة الرابعة و التي تبنت عملة موحدة أو ما يعرف بمنطقة اليورو و يصل عدد الدول الأعضاء الى 19 دولة. و الدائرة الخامسة هي الدول الأوروبية و المطلة على البحر الأبيض المتوسط و التي يصل عددها الى 11 دولة.

انطلاقا من هذه المعطيات الجيوسياسية بنت الدول الأوروبية دوائر مركزة للتعاون مختلفة من حيث الحجم و من حيث الدلالات و التداعيات على الاقتصاد و الأمن.
أما الدائرة السادسة و الأخيرة فهي التي تجمع بين أربعة دول أوروبية اتحدت على مشروع صناعي استراتيجي و هو صناعة الطائرات المدنية و التي تتكون من كل من فرنسا, ألمانيا, اسبانيا و بريطانيا.
انطلاقا من هذه الهندسة المؤسساتية للتعاون أو الاندماج يمكن للدبلوماسية المغربية أن تعيد قراءة جغرافية القارة الافريقية بحيث أن المغرب يصبح عضوا افريقيا على المستوى الجغرافي و في نفس الوقت أن يرسم دوائر مركزة مع دول افريقية على مبدأ المشاريع كانت, مالية, اقتصادية, جمركية, عسكرية, علمية, أمنية أو استخباراتية. فعلى سبيل المثال تنتمي فرنسا جغرافيا الى القارة الأوروبية و لكنها هي الدولة الوحيدة التي تتموقع في الدوائر الستة للتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة للمغرب الخروج من فضاءات خلقت ميتة كالإتحاد المغاربي أو الجامعة العربية أو منظمة الوحدة الإسلامية. والخروج لا يعني الانسحاب و لكن الخروج من محتواه السياسي,الإيديولوجي العرقي العقيم الذي بني على مفاهيم غير عقلانية كالانتماء العرقي, الديني أو اللغوي. فالإتحاد الأوروبي يحتوي على أكثر من خمسة ديانات و ما يقارب 19 لغة و سبعة أصول عرقية. و لكن بني هذا الإتحاد الأوروبي على الحديد و الصلب سنة 1956 ثم على السوق الاقتصادية المشتركة سنة 1973 بعد أزمة البترول ثم على أساس حرية تنقل البضائع و الأشخاص سنة 1996 و أخيرا على مبدأ العملة الموحدة سنة 2002, ومازالت تطمح لسياسة خارجية و عسكرية موحدة. وكانت تسير نحو إيجاد صيغة دستورية مشتركة (و ليست موحدة) و لكن خمسة دول رفضت ذلك بعد تنظيم استفتاء لشعوبها.

إن الخريطة الديبلوماسية المغربية لا تشمل الى حد الآن المنطقة الانكلوفونية حيث لازالت تعتبرها الرباط مناطق رمادية للانتشار الدبلوماسي فهناك خمسة دول يجب استهدافها من طرف الدبلوماسية المغربية بغض النظر عن مواقفها باتجاه قضية الصحراء, و يتعلق الأمر بأثيوبيا, نيجيريا, جنوب افريقيا (التي لا تربطها بالجزائر إلا علاقات إيديولوجية), كينيا و مصر. فمجموع هذه الدول الخمسة بالإضافة الى المغرب يمثلون سبعة و ثمانون بالمائة من النقل الجوي على مستوى القارة. كما تتميز هذه الدول الخمسة بكونها مطلة على المحيط الأطلسي و المحيط الهندي و البحر الأحمر (قناة السويس), مما يجعل المغرب في قلب العولمة البحرية و ربطه الاستراتيجي بالقارات الخمس.
و أخيرا و انطلاقا من تجربة أوروبا يمكن للمغرب أن يفكر في خلق دائرة مركزة مبنية على مشروع صناعي متعدد البلدان خاصة في مجال الطاقات المتجددة ثروات البحار صناعات التلقيح و الصناعات الغذائية و الاندماجات المصرفية و البحث العلمي حتى يمكن بفضل هذه الدوائر المركزة الخروج من هيمنة فرنسا و الصين و تركيا على القارة الافريقية و ترسيخ المغرب كدولة صاعدة حقيقيا في أفق 2030.


هـام للمغاربـة.. بلاغ جديد من وزارة الصحة والحماية الاجتماعية

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب





انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى