الوديع يكتب: فيديو الزفزافي واستباحة الجسد

يقدم لنا الفيديو-الكارثة، الفيديو اللقيط مجهول الهوية الذي لا يتجرأ أحد على تبنيه لحد الساعة، والذي يعرض تسجيلا للزفزافي بالصورة دون صوت ما عدا أصوات مجزأة، يبدو أنها تتحدث في هاتف. هذا الفيديو يقدم لنا الزفزافي شبه عار – باستثناء عورته – واقفاً تُسلط على أجزاء جسمه كاميرا متجولة وهو تحت سلطة (حماية؟) الدولة، يقدم لنا نموذجا لتعامل الدولة في حالات عديدة مع جسد المواطن، ونموذجا للثقافة السائدة عن الجسد، لفكرتنا عنه ولتصورنا عن حق الشخص في تملك جسده والدفاع عن حرمته وحقوقه في ذلك وواجبات الغير تجاه أجساد الآخرين وواجبات الدولة تجاه أجساد المواطنين.
الموضوع هنا طبعا يمس في المقام الأول ما تتحمله الدولة من مسؤوليات باعتبارها صاحبة احتكار العنف المشروع والمسئولة عن إنفاذ القانون وحماية المواطنين. لهذا السبب بالضبط لا يمكن أن يُسمح لها بتعريض أي معتقل موجود تحت تصرفها لاستباحة جسده بأي شكل كان: بما في ذلك تصوير المعني بالأمر وهو فاقد الإرادة ثم نشر ذلك على العموم، مهما كانت المبررات والأعذار.
وحتى لو اعتبرنا أن حركة الجسد عند اعتقال صاحبه تصبح محدودة وخاضعة لتدابير تنظيمية من المفروض أن تدخل في صميم تطبيق القانون (من مثل سحب الأغراض التي يمكن أن تشكل خطرا ومثل التصوير من أجل الأرشفة ومثل أخذ البصمات وربما ADN) أو عند وضع شخص رهن الاعتقال الاحتياطي (الوجود في زنزانة، التنقل بترخيص، محدودية الحركة والتجول، مربع المشي المحدود…) فإن هذا ليسا مبررا لتصرف مؤسسات الدولة في جسد المعني بالأمر بتعسف وبلا حسيب ولا رقيب.
حينما يحدث مثل هذا فإنه يدخل تحت ما يسميه الفيلسوف والمفكر الراحل ميشيل فوكو ب”التحكم المباشر أو غير المباشر” للدولة – أي دولة – في أجساد الاشخاص وحركاتهم (انظر كتابه القيِّم “المراقبة والعقاب – تاريخ السجن”). لكن المشكل هو حينما تتسرب (أو تعشش) العقلية العتيقة وشبه الاقطاعية بأدمغة مسئولين عن إنفاذ القانون. إذاك لا يعود لهم رادع في تصرفهم تجاه أجساد المعتقلين أو كل من هم تحت سلطتهم. فقد عشنا زمنا وظروفا وسياقات كان بإمكان الموظف المكلف بإنفاذ القانون أن يُخضع المعتقل للضرب أو الصفع أو الركل أو الرَّضخ (الإلقاء العنيف على الأرض) أو تقنيات التعذيب بشتى أشكاله (من أجل انتزاع الاعترافات)، حسب الأهداف المرسومة له أو حسب المزاج ليس إلا… وفي كل هذه الحالات شكلت هذه التصرفات أفعالا جرمية يعاقب عليها القانون.
تظهر لنا التجربة التي نعيشها اليوم أن جسد المعتقل إذا كان قد أصبح محميا بقوة القانون – حسب النصوص – فهو ليس محميا من العقلية القروسطية التي تتجاوز التحكم في الجسد لأغراض حرمان صاحبه من الحرية بموجب القانون، إلى تحقيره المتعمد والتشهير به والتنقيص منه ودمغه بالعري كامتهانٍ عن طريق عرض جسده للغير على الشبكة العنكبوتية. إن هذه العقلية تعتبر جسد الآخرين مِلكية لصاحب السلطة. وربما خالطت ذلك ساديةٌ شخصيةٌ دفينة تلازم صاحبها وتعبر عن نفسها في لحظات الانتشاء بالسلطة القاهرة. تماما كما يتصرف المغتصِب تجاه جسد ضحيته في لحظة عزلتها عن العالم وعجزها عن الدفاع عن نفسها تجاه جبروته.
ومع استحضار اختلاف السياقات بين الفترتين، فإن كل من عرف التعذيب خلال السنوات السوداء يعرف معنى شعور المرء بفقدان سلطته على جسده أمام جبروت الجلادين. ليس فقط في اللحظة التي يكون فيها بين مخالبهم، بل كذلك خلال لحظات انتظار المناداة عليه لحصة التعذيب اللاحقة…
رهان القضية الرائجة اليوم والمتعلقة بالفيديو- الكارثة هو أن نعمل جميعا من أجل اجتثاث هذه العقلية…