نحو ثورة بيئية بـ164 مليون درهم.. خزان المغرب الغذائي “اشتوكة” يستعد لتثمين 90% من نفاياته

في قلب النموذج الفلاحي الأكثر ديناميكية في المغرب، حيث تُنتج حقول اشتوكة أيت باها ثروة خضراء تغزو الأسواق الوطنية والأوروبية، يتشكل بهدوء وجه آخر للنجاح، وجه أكثر قتامة يهدد بتسميم أسس هذا الازدهار ذاتها. هنا، لم تعد النفايات مجرد مشكلة نظافة، بل أصبحت تحدياً وجودياً دفع السلطات إلى وضع رهان استراتيجي على الطاولة: خطة إنقاذ بقيمة تتجاوز 164 مليون درهم، لا تهدف فقط إلى التنظيف، بل إلى إعادة هندسة علاقة الإقليم بموارده قبل فوات الأوان.

الثورة الهادئة: تفكيك الفوضى عبر منظومة مركزية

المخطط المديري الجديد، الذي تم الكشف عن تفاصيله في اجتماع حاسم ترأسه عامل الإقليم، محمد سالم الصبتي، يمثل قطيعة تامة مع منطق الحلول المؤقتة. إنه يرسم ملامح بنية تحتية هي أشبه بالجهاز العصبي المركزي؛ نقطة ارتكازه هي مطرح إقليمي مراقب من الجيل الجديد، مصمم كحصن بيئي يعالج عصارة النفايات ويحتوي الغازات السامة، منهياً بذلك حقبة المطارح العشوائية التي كانت تنزف ملوثاتها مباشرة في التربة والمياه.

وتتفرع من هذا المركز شبكة لوجستية دقيقة من ستة مراكز للتحويل وخمس وحدات للفرز، مهمتها تجميع النفايات من كل شبر في الإقليم وتوجيهها بدقة نحو مسارها الصحيح، ما يضع حداً لحالة العجز التي طالما عانت منها الجماعات المحلية.

معادلة الـ 90 بالمئة: تحويل السم إلى دواء

تكمن عبقرية المخطط في فلسفته التي تتجاوز مجرد الإدارة لتدخل عالم “الاقتصاد الدائري”. الهدف ليس دفن النفايات، بل القضاء عليها تقريباً. الخطة تهدف إلى تحويل حوالي 90% من النفايات بعيداً عن الطمر، عبر معادلة دقيقة: 30% يمكن تحويلها إلى أسمدة عضوية تعود لتغذية الحقول التي أنتجتها، و30% ستُفرز لإعادة تدويرها كمواد خام للصناعة، و30% ستُستخدم كوقود بديل في الوحدات الصناعية. هذه المعادلة لا تحل مشكلة بيئية فحسب، بل تخلق قيمة اقتصادية من لا شيء، محولةً ما كان عبئاً إلى مورد حقيقي. إنها رؤية تحول النفايات من نهاية السلسلة إلى بداية سلسلة جديدة.

تفاصيلٌ في المخطط: سباق ضد المال والزمن والواقع

غير أن هذا الهيكل الهندسي الطموح يواجه رياحاً واقعية عاتية. فغلاف الـ 164 مليون درهم ليس مجرد رقم، بل هو جبل مالي يتطلب تعبئة استثنائية، فضلا عن تحديات الوضعية الحالية التي يفرضها الاعتراف بأن الدراسة التقنية نفسها بحاجة إلى “تحيين”، وهو إقرار مهذب بأن الواقع على الأرض يتغير أسرع من الخطط الموضوعة على الورق؛ فالنفايات تتزايد بوتيرة تفوق التقديرات. هذا السباق المحموم ضد الزمن يضع ضغطاً هائلاً على مجموعة الجماعات “ايكولوجيا”، الذراع التنفيذي للمشروع، والتي ورثت تركة ثقيلة من ضعف الإمكانيات ومحدودية الموارد التي جعلت النتائج في الماضي متواضعة رغم كل الجهود.

الخطر الصامت في الحقول: حينما يخنق النجاح شريان الحياة

لكن التحدي الأكبر يكمن خارج نطاق النفايات المنزلية، في قلب الحقول الخضراء. فالنموذج الفلاحي المكثف، الذي هو مصدر فخر الإقليم، يولد “نفايات فلاحية” عالية الخطورة: أطنان من البلاستيك، وعبوات مبيدات وأسمدة كيماوية سامة. هذه المخلفات، التي يتم التخلص منها عشوائياً، لا تشوه المشهد فحسب، بل قد تتسرب ببطء إلى الفرشة المائية، شريان الحياة الذي يعاني أصلاً من استنزاف حاد. هذا التلوث الكيماوي الصامت لا يهدد فقط جودة مياه الشرب، بل يهدد بقتل الإوزة التي تبيض ذهباً، أي القطاع الفلاحي نفسه.

ما وراء الحلول الهندسية: حتمية الثورة التشريعية

وهنا يتضح أن المخطط المديري، رغم ضرورته القصوى، يظل حلاً جزئياً يعالج الأعراض دون استئصال المرض من جذوره. فكما يرى خبراء بيئيون، لا يمكن لأي بنية تحتية، مهما كانت متطورة، أن تحل مشكلة النفايات الزراعية وحدها. الحل الحقيقي يكمن في “ثورة تشريعية”؛ في تحيين القوانين المغربية لتفرض إدارة سليمة لهذه النفايات الخطرة، وفي ملاءمة التشريعات الفلاحية مع حتمية حماية البيئة ومواجهة التغيرات المناخية. إن خطة الـ 164 مليون درهم هي خطوة جبارة وضرورية، لكنها يجب أن تكون بداية وليست نهاية. فالمعركة الحقيقية من أجل مستقبل اشتوكة آيت باها لن تُحسم بالخرسانة والآليات فقط، بل بجرأة سن قوانين تحمي الموارد التي تمنح المنطقة سبب وجودها.


قرار المحكمة في حق المتهم في حادث دهس الطفلة غيثة

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى