محمد الصبري يبسط أسباب انتشار الجريمة في المجتمع وعلاقتها بفلسفة العقاب
محمد الصبري: باحث في العلوم القانونية ومهتم بالأبحاث الاجتماعية
يَسكن روح القانون مقصد اجتماعي يحرر سلوك الفرد من الفوضى والأذى، وفي أعماق هذا القانون تَنبعثُ منافع سلوكية تُشيع صور السلوك الأخلاقي المدني في تصرفات الفرد، وتكمل له وصف الإنسان كمخلوق اجتماعي يبتغي التنظيم والوقار ويضطلع إلى كسب حياة اجتماعية متوازنة خالية من محفزات الجريمة انسجاما مع متطلبات الحياة الاجتماعية المدنية للفرد.
إن فلسفة العقاب التي تتموقع في هرمية وظائف القانون، هي في أصلها لا تروم إلى قمع حركة الفرد داخل المجتمع، وإنما الغاية منها الحفاظ على الحس المدني وتوحيد الوعي الجمعي وفق ما ينسجم مع روح الأخلاق ويتوافق مع قواعد التعايش السلمي داخل الجماعة والمجتمع. هذا هو الذي يُفهم من فلسفة العقاب التي يُراد منها أيضا ترتيب الجزاء في حق الفرد الذي يتمرد على قاعدة من قواعد السلم الاجتماعي.
الحس الإجرامي الذي يسكن في عمق الفرد ليس من صنائع الصدف، وإنما يتشكل جزء منه من الركود الأخلاقي الذي يُنتسب في أصله إلى أزمة في التنشئة التي يتقاسم مسؤوليتها كل من المحيط والأسرة وإن كان من اللازم ألا نحصر سبب هذه الفجوة الحاصلة بين الفرد وبين قواعد السلوك المدني في الأسباب الواردة قبل، بل أصبح للمدرسة أيضا مسؤولية في هذا الإطار بحكم غياب بيداغوجية تربوية تنمي السلوك المدني في المتعلم وتقلل من الظواهر القذرة التي توسع الفجوة بين الفرد وبين السلوك المدني السليم.
حتى لا يعول على المنطق الشائع كل جريمة يقابلها جزاء، أمكن الانفتاح على وسائل إجرائية قبلية للاشتغال على مسألة تقليص الجريمة على غرار التجارب الغربية، بحيث تتم عملية مؤسساتية ( القضاء، التنظيمات الجمعوية ، الإعلام، المدرسة…الخ) يُنتظر منها حلولا واقعية ملموسة للحد من الانحراف، وأكثر من ذلك أن الهدف هو خلق تنشئة جديدة للأجيال تنخرط فيها كل المؤسسات كإجراء قبلي الذي من الممكن أن يقلص من كل الأفعال الجرمية التي لا تعالج بالعقوبة وحدها.
هنا نطرح السؤال حول منسوب الجهود التي تبذلها البنيات الفاعلة في إطار جمعيات المجتمع المدني التي تتخذ أنشطتها طابعا اجتماعيا، كما نسائل في ذات الوقت مختلف برامجها التي تهتم بتقليص السلوكات التي تتنافى مع متطلبات الحياة المدنية، وكذلك مختلف البرامج التي تنصب نحو تأهيل الفرد عبر مختلف الأنشطة التي تنمي السلوك الاجتماعي خصوصا في الأوساط التي تشهد سلوكات غير عادية من قبل المراهقين والمتمردين على قوانين السلام والأمن في نقاط هذه الأوساط التي تستفحل فيها معظم الظواهر الإجرامية.
في سياق الحديث عن جمعيات المجتمع المدني، فنجد أن هناك إخفاق مسجل في حق بعض هذه التنظيمات الجمعوية بسبب عدم جاهزياتها في تكوين جيل جديد من الأفراد عبر برامج مختلفة تنمي الحس المدني، وتقوي العلاقة بين الفرد وبين الضوابط الاجتماعية، وتنهى عن الأفعال اللاواقعية التي تسوقها مواقع التواصل الاجتماعي في مناسبات كثيرة.
عموما، أصبح مُطالباً في الوقت الراهن تحديد وتحديث مجموعة من البرامج سواء عبر مبادرات من قبل التنظيمات الجمعوية التي تهتم بالشأن الاجتماعي والحقوقي، أو عبر بيداغوجية موضوعية تعلمية تتضمن أدابيات الانخراط في المجتمع بدون جريمة لفائدة المتعلمين والمتعلمات، أو الانفتاح على التنشئة الغربية بهذا الخصوص عبر التفكير في إستلهام أفكار جديدة وأكثر جودة التي من خلالها يمكن أن نضمن جيل جديد من السلوك المدني الصافي مطبوع بالتنوع الإيجابي ويخدم السلام والأمن للفرد والجماعة. بهكذا أساليب، يمكن أن نقترب من فرص تضييق الفجوة بين الفرد المتمرد وبين السلوك المدني القويم، وهذه التهيئة المركبة والمرتبة التي تخللتها تدخلات فاعلين متعددين من شأنها أن توحد الضمير الجمعي وتنمي وحدة السلوك الإيجابي في عمق تصرفات الفرد.
الأساس من كل ما سبق، هو التأكيد على أن القانون لا يتكل عليه وحده في موضوع معالجة الإخفاق الحاصل على مستوى الضبط الاجتماعي للسلوك الإجرامي للفرد، وإنما هناك عناصر أخرى تتقاسم المسؤولية مع القانون وفق ما ذكرناه سابقا، ويتعلق الأمر بمنظومة اجتماعية لها قدرة على الانخراط في إطار التشبيك والالتقائية مع وحدات تنظيمية تنصب اهتماماتها حول مسألة تقليص سلوك الجريمة والانحراف في الأوساط المهمشة التي تصدر في احايين كثيرة سلوكات فردية مطبوعة في عمقها بالأذى والضرر.
يمثل سلوك إثبات الذات في صفوف المراهقين صورة صامتة للفعل الجرمي، وينشأ جزء من هذا الفعل الشائع في ظروف صنعها ويصنعها الفراغ في التنشئة، وبالتالي نصبح أمام سلوكات مشبوهة يعجز القانون في التقليل من مخاطرها الآنية والمستقبلية.
تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب
انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية