أطفال حرموا الحق في النسب.. اسم الأب “بدون” -فيديو
وفاء بلوى
لاح نور الأمل قبل ثلاث سنوات من المحكمة الابتدائية بطنجة، راسما حلما بمغرب دون أطفال متخلى عنهم، أو هكذا خيل للكثيرين وبينهم أطفال حرموا الحق في النسب، وفاعلون حقوقيون، ورجال قانون، وأمهات عازبات قررن الاحتفاظ بفلذات أكبادهن، وخوض معركة إثبات النسب في ظل قانون “يقطع” حبل البنوة والنسب بين الطفل وأبيه البيولوجي، وإن ثبتت بالخبرة الجينية ADN، ما دام الولد ناتجا عن علاقة خارج مؤسسة الزواج، والوالد غير مقر بأبوته.
وشكل اجتهاد رئيس قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية بطنجة محمد الزردة، سابقة من نوعها في المغرب، بعدما قضى بثبوت بنوة بنت ولدت خارج إطار الزواج لأبيها البيولوجي، معتمدا في ذلك على الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، وكذا اختبار الحمض النووي ADN الذي جاء مطابقا.
واستمرت القضية، واستمر معها الأمل إلى أن نطقت محكمة النقض بالحكم الأخير المستند على قواعد القانون وقواعد الفقه الإسلامي، والذي جاء فيه أن “البنت تعتبر أجنبية عن أبيها، ولا تستحق أي تعويض لأنها ناتجة عن فعل غير مشروع كانت أمها طرفاً فيه”، و “أن العلاقة بين طرفي النزاع علاقة فساد وأن ابن الزنا لا يلحق بالفاعل ولو ثبت بيولوجيا أنه تخلق من نطفته، لأن هذه الأخيرة لا يترتب عنها أي أثر يذكر”.
قرار أثار جدلا في الأوساط الحقوقية شهر أبريل المنصرم، صاحبه اهتمام إعلامي سرعان ما خفت، تاركا أطفالا ولدوا خارج مؤسسة الزواج منزوين في ظل الصمت بوصمة “عار” لا ذنب لهم فيها.
وأبى فريق “سيت أنفو” إلا أن يسلط الضوء على زاوية الصمت، ويسمع صرخة هؤلاء الأطفال وأمهاتهم اللاتي يناضلن من أجل حق أبنائهن في نسب وهوية، فكانت البداية من “الحي الحسني” أحد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء، حيث التقينا “الحسنية” أم عازبة لـ6 أطفال، تتخذ من سطح إحدى العمارات المهترئة مستقرا لها وأطفالها الستة، بعدما طردت من غرفة كانت تكتريها ولم تعد قادرة على دفع إيجارها بسبب وضعها المادي المزري، لتستر نفسها وأبناءها عن عيون الشارع حتى وإن غاب سقف يسترهم ويحميهم تقلبات الجو، في انتظار حلول الظلام ونزولهم ضيوفا ثقال على سيدة تسمح لهم بالمبيت في منزلها شرط مغادرته في الصباح الباكر.
نبذ وضغط ومصير مجهول
بدا الضغط النفسي واضحا على “الحسنية” منذ الوهلة الأولى، ليس بسبب ما تعتزم أن تبوح به، وإنما بسبب وضعها. التقيناها في حالة هستيريا، باكية مرتجفة إثر سقوط أصغر أبنائها وعمره سنة من الدرج، وانتقلت الهستيريا إلى باقي أبنائها ليستكين الجميع بعد دقائق، وتبقى هي محتضنة صغيرها بقوة في مشهد أقل ما يقال عنه أنه تجسيد لصورة أم ثلاثينية منهكة من تحمل مسؤولية 6 أطفال يرون فيها السند الوحيد، فيما لا تجد هي جدارا تستند عليه غير جدار هواء السطح البارد.
تقول “الحسنية” المتحدرة من مدينة فاس في حديثها لـ”سيت أنفو” إن حكايتها بدأت عندما زوجها أهلها في سن مبكر من رجل أنجبت منه طفلتها الأولى البالغة من العمر 13 سنة الآن، وبعدها تطلقت، وانتقلت إلى البيضاء هربا من “كلام الناس”، لتجد نفسها هاربة مجددا من وحوش الشارع التي تاجرت في لحمها، فما وجدت من سبيل غير الارتماء في أحضان رجال وفروا لها المأوى، “الأول عشت معاه 3 سنين بلا وراق بلا والو، وولدت معاه 4″، وبعد انفصالها عن خليلها الأول، اتخذت خليلا ثانيا وفر لها هو الآخر مأوى وأنجبت منه طفلها السادس.
وتضيف “الحسنية” أن أهلها ومعارفها تخلوا عنها وتتفهم دوافعهم “شكون غايقبلني بستة د الدراري؟”، مشيرة إلى أن مشاكلها “عنقودية”، فانحدارها من فاس وانعدام حصولها على سكن قار منعاها من تجديد بطاقتها الوطنية بالبيضاء وبالتالي لم تتمكن من الحصول على عمل، وبالتالي لن تستطيع توفير سكن ولا إدخال أطفالها المدارس، سيما أنهم جميعا ـ ما عدا الابنة الكبرى ـ لا يملكون وثائق ولا نسب، وأنها حتى إن وجدت عملا فلن تستطيع ترك أبنائها الصغار في “السطح” بدون مرافق يراقبهم ويسهر على سلامتهم، لتغرق مكتوفة اليدين في دوامة المصير المجهول.
توجهنا إلى طنجة شمال المغرب، وتحديدا إلى مؤسسة الرعاية الاجتماعية دار الكرامة لإدماج النساء في وضعية صعبة، التابعة لجمعية كرامة لتنمية المرأة، حيث التقينا ليلى وفاطمة الزهراء (أسماء مستعارة)، أمين عازبتين بحظ أوفر من “الحسنية”، بعد أن اهتديا إلى باب جمعية احتضنتهما وآوتهما، وتعمل على حصول أبنائهما على نسبهم، لكن هذا لم يبدد من ضغطهما النفسي وخوفهما من المصير المجهول.
جلست ليلى (اسم مستعار) أمام الكاميرا مرتبكة رغم ابتسامة الطفلة التي تعلو محياها، وبعد تنهيدة طويلة بدأت تروي تفاصيل حكايتها التي بدأت بيافعة نزلت من بادية أعالي جبال الريف إلى حاضرة تطوان في زيارة لعمتها المريضة، فباتت لقمة سائغة في فم “الحب” والأحلام الوردية، وغدت أما عازبة.
وتقول ليلى إنها التقت والد ابنها في تطوان وبعد إلحاحه تحدثت إليه وأعطته رقم هاتفها، وكان هدفها الزواج، مشيرة إلى أنه فعلا تقدم لخطبتها من عمتها ثم من أبيها، وخلال فترة الخطبة أقنعها بأنها صارت زوجته لتمكنه من جسدها، وبعدما طالت فترة الخطبة ولم يستطع الرجل إتمام الزواج، فسخ والدها الخطبة، ولم تعرف بحملها إلا بعد مرور 6 أشهر، ثم تزوجت من رجل ثان دون أن تخبره بحملها درء للفضيحة، إلى أن انكشف الأمر بعد شهرين وأكد الطبيب لأخت زوجها أنها حبلى في الشهر الثامن.
وتضيف “حينها طلقني زوجي وقاطعني أبي وأهلي” لتتدحرج في الدروب وصولا إلى دار الكرامة، “أنا دابا عاماين باش ولدت وباقي ماعملتش ثبوت النسب … ودرت بزاف دالمحاولات وهو ماباغيش يعترف ودابا الحل اللي بقا هو أنني غانمشي أنا والجمعية لعندو لتطوان باش نتكلمو معاه مباشرة ونطلبو منو يعمل ADN” تضيف.
من جهتها، فاطمة الزهراء (اسم مستعار) عاشت قصة مشابهة إلى حد ما، فتاة من “الجبل” تعرفت على رجل من خلال الهاتف، واستمر التواصل، ثم التقيا وحدث الحمل، وأنكر الأب… فلجأت إلى جمعية الكرامة وخاضت معركة إثبات النسب مرورا بالخبرة الجينية التي لا تلزم الأب بالإقرار بأبوته وإن كانت مطابقة، فمرحلة إقناع الأب البيولوجي ليسجل الطفلة في اسمه، ليحالفها الحظ في النهاية بأن أذعن الأب وأقر بأبوته للطفلة ونسبها إليه.
وفي هذا الصدد، تقول وفاء بن عبد القادر، رئيسة جمعية كرامة لتنمية المرأة، إن “الجمعية تستقبل منذ سنة 2002 أسبوعيا عشرات الحالات لأمهات عازبات، ينقسمن إلى مجموعات بينهن القاصرات اللاتي تعرضن للاغتصاب أو تم التغرير بهن، وكذا الشابات اللاتي حملن في فترة الخطبة”، مشيرة إلى أن الجمعية تباشر فور استقبال الأم إجراءاتها لإثبات نسب الطفل، بدء بالتواصل مع “الأب المزعوم” بالموازاة مع الوساطة بين الأم العازبة وعائلتها.
وتقول وفاء بن عبد القادر: “98٪ من الأمهات العازبات اللي كايجيو لعندنا ترفضهن أسرهن فنقوم بالوساطة لنوضح للأهل أن ابنتهم نادمة وأنها تحتاج إليهم، ودائما ما نتوفق في هذا الجانب”.
من جانبه أوضح ياسين رفيع بنشقرون، رئيس الجمعية المغربية لليتيم، أن إحصائيات قامت بها جمعية إنصاف سنة 2010 خلصت إلى أن “هناك 200 ألف أم عازبة، 75٪ منهن ينحدرن من المدن و25٪ منهن ينحدرن من العالم القروي”، مشيرا إلى أن تحيين هذه الإحصائيات سنة 2021 يمكن أن يكشف رقما أكبر، ” وفي ظل عدم اعتراف الآباء البيولوجيين بأبنائهم، وانعدام إلزامهم بذلك من طرف القانون يكون مصير هؤلاء الأطفال الإجهاض أو التخلي فيما بعد”.
قوانين مربكة وخبرة جينية لا تعتبر
اشتركت النسوة اللاتي التقيناهن في تفادي الوصول إلى القضاء لإثبات نسب أبنائهن والسعي وراء حل المشكل دون الوصول إلى ردهات المحاكم.
وفي هذا الصدد، تقول الحسنية والعبرات تنهمر من مقلتيها : “ما عمري مادعيت بات حتى واحد فولادي، راجلي الأول فرض عليا نتنازل على كلشي باش نتطلق، والسيد اللي كنت معاه عندو مو فضهرو واقفة معاه سانداه أنا ماعندي حد سوى الله وهاد الوليدات، شكون غادي نمشي ندعي الاول ولا الثاني ولا الثالث .. دعيتهم لله”.
وفي ذات السياق تقول ليلى متحسرة: “مابغيتش نرفع عليه دعوى حيت عارفاه ماغايجيش وهو قالي واخا ترفعي عليا دعوى ماغانجيش”.
من جانبها سعاد الطاوسي، المستشارة القانونية، توضح أن “الأم العازبة عندما ترغب في ضمان حق ابنها في النسب والبنوة تتوجه بثقافتنا المغربية إلى ولاية الأمن “الكوميسارية” لوضع شكاية في الموضوع، وتحال الشكاية فيما بعد إلى المحكمة الابتدائية التي أساسها القانون الجنائي، وهنا تصدم الأم العازبة بالفصل 490 من القانون الجنائي الذي يجرم كل علاقة جنسية خارج مؤسسة الزواج ويعتبرها فسادا، فتدان الأم باعترافها والجنين في بطنها أو الطفل في يدها، فيما يبرأ الأب، والضحية في كل هذا الطفل الذي لم نضمن له حقه في النسب”.
وتزيد سعاد الطاوسي قائلة: “حتى عندما تسلك الأم العازبة المسار الصحيح وتتجه إلى محكمة الأسرة نجد أن مسطرة إثبات النسب تنص على أن الطفل ينسب لـ3 : الفراش ويعني الزواج بالضرورة، والشبهة ، ثم الإقرار”، مشيرة إلى أنه في حالة إحالة الملف على الخبرة الجينية ADN بأمر من وكيل الملك فنتائج الخبرة الجينية لا تفيد الإلزام بالإقرار.
كلام تؤكده وفاء بن عبد القادر قائلة: “عندنا ملفات كثيرة كانت نتائج ADN إيجابية وامتنع الأب عن إعطاء نسبه لطفله وهذا هو الإشكال الذي نترافع من أجله و ننظم ندوات ونرسل توصياتنا للجهات المعنية من أجل تغيير هذا القانون أو إيجاد حل لحماية هؤلاء الأطفال”، مشيرة إلى جمعية كرامة لتنمية المرأة التي ترأسها تستغل هذه النتائج على طريقتها من خلال محاولات إقناع الأب وبناء رابطة عاطفية بينه وبين ابنه عل الرحمة تدفعه للإقرار.
ما هو الإقرار؟ وكيف يتم؟
يكشف عبد العزيز الدراز، المفتش السابق للحالة المدنية والناشط الحقوقي، في حديثه لـ”سيت أنفو” أن الإقرار إجراء بسيط بمسطرة بسيطة يقوم به الأب، من خلال التوجه إلى مكتب ضابط الحالة المدنية لمحل الولادة، ويصرح بتسجيل الطفل باسمه، مع كتابة إقرار بأن الطفل ابنه وينسب إليه، مشيرا إلى أن الإقرار يكون في الحالات التي يغيب فيها عقد الزواج.
أمي تخلت عني بسبب قانون مجحف
“أنا عارف القانون ماشي فصفك أماما”، هذا ما قاله الشاب مروان كاميلي، النزيل السابق بإحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، عندما طلبنا منه توجيه رسالة لوالدته التي تخلت عنه، ويقول مروان كاميلي في حديثه لـ”سيت أنفو” إنه عاش طفولة قاسية بمؤسسة الرعاية الاجتماعية بسبب اليتم وغياب الرحمة من قلوب بعض المؤطرين والقائمين على شؤون مؤسسة الرعاية الاجتماعية، مشيرا إلى أن معاناته في الصغر كـ”ولد الخيرية” أثرت في نفسيته بشكل كبير، سيما عند رؤيته أقرانه مصحوبين بذويهم فيما فيما لا يصحبه غير زملائه في “الخيرية” ومؤطرته.
وفي ذات السياق، قال مروان كاميلي الذي يخبئ آلامه بابتسامة عريضة ورباطة جأش، إن معاناة اليتم والتخلي والعيش بدون هوية تكبر سنة بعد سنة، سيما بعد إغلاق مؤسسة الرعاية الاجتماعية أبوابها، ولفظها “أولادها” خارجا إلى شارع لم يخبروه يوما، ولا يملكون فيه قريبا ولا صديقا، وما يعمق الجراح بحسب مروان كاميلي أن تصبح بطاقة التعريف الوطنية نبشا في جرح اليتم الغائر، ” مللي كاتبغي تقلب على خدمة أول ما كايشوف المشغل لاكارط ديالك كاينقص منك حيت عندنا مؤسسة الرعاية الاجتماعية فالعنوان، ماكايعرفك واش مجرم ولا منين جاي؟”.
ويسترسل مروان كاميلي في الحديث وكأن الأحداث تتدافع في جوفه على شكل كلمات من هنا وهناك، قائلا إن من بين الذكريات المؤلمة التي عاشها كيتيم متخلى عنه كانت يوم اضطر لدخول المستشفى وسألته الممرضة المشرفة على حالته عن سبب عدم زيارة أهله له، “كدبت عليها وقلتلها هاهوما غايجيو، وغير سدات الباب بديت نبكي”.
وفي ذات السياق، يؤكد مروان كاميلي أنه سامح والدته على تخليها عنه، وأنه يلتمس لها العذر، فعلى حد قوله القانون لا يلزم الآباء البيولوجيين بالاعتراف بأبنائهم “فالوالدة ديالي غاتكون دعاتو ومللي شافت راسها ما غاتربح والو لاحت الولد حتا هي”.
بدورها ليلى تقول إنها متخوفة من المستقبل ونظرة المجتمع لطفلها في حال لم تنجح في كسب رهان إثبات نسبه لأبيه، “كانخاف ولدي يتعقد لي مللي يكبر ويضحكو عليه حيت ماعندوش باه .. كانخاف يجيه الاكتئاب”، معربة عن أملها في إقناع الوالد البيولوجي لابنها بالقيام بالإقرار، ومشيرة في الآن ذاته إلى أن غياب إلزام الأب البيولوجي بالاعتراف بالطفل ونسبه إليه بعد إجراء الخبرة الجينية نوع من “الحكرة” على حد تعبيرها، متمنية في الوقت ذاته أن يدعمها القانون والنساء في وضعها صونا لمستقبل وكرامة أطفالهن.
وفي سياق متصل، شاركت فاطمة الزهراء ليلى نفس الأمنية، بقانون يحمي الأطفال، ويضمن حقهن في النسب والهوية، وهي التي سبرت مجبرة أغوار رحلة إثبات النسب، واستجداء رحمة الأب البيولوجي ليسجل طفلتهما باسمه.
من جهتها تقول سعاد الطاوسي إن الوضع يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية تكفل أبسط حقوق مواطني الغد، وهي الحق في النسب والحق في الهوية.
يشار إلى أن الإحصائيات التي قدمتها الجمعية المغربية لليتيم تكشف أنه يتم التخلي عن الأطفال بمعدل 24 طفل يوميا في المغرب، و8600 طفل في السنة، جلهم أطفال ولدوا خارج مؤسسة الزواج، فهل يتغير القانون إيقافا لهذا النزيف؟.
تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب
انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية