زهير سنيسلة.. كفيف أبصر الملاعب بموهبته
الإعاقة لم تكن يوما رادع الساعين للنجاح، لم تنغّص حياة من قطع عهد بلوغ المراد مهما اشتد ضنك عيشه، هي حافز وأعظم دافع لمن آمن بقدرته، إضافة وامتياز لمن تقبل قدره وعمل لحاضره ومستقبله، التاريخ غنيٌ بنماذج أبدعت في شتى المجالات والتشعبات، والرياضة هي الأخرى تنعم بأبطال أظهروا للجميع شأنهم العظيم، كرة القدم لدى المغاربة والعرب بات لها بطل من ذهب، بطل نبع من ظلامه وخطف الأضواء التي جعلته ظاهرا للملأ، زهير سنيسلة كفيف أبصر الملاعب بموهبته وأسر القلوب بسجيته وحكايته.
هداف بطولة كرة القدم الخماسية للمكفوفين، بثمانية أهداف، ومساهم مباشر في تحقيق المغرب للميدالية البرونزية، إضافة لتتويجه مع المنتخب الوطني بطلا لإفريقيا ثلاث مرات، ثمار جناها شاب كفيف يبصر طموحه وأحلامه، نجاحات رياضية بعد شقاء امتد لسنوات، شقاء واجهه ببسالة ثابتا رافضا الخضوع لإشكاله البدني ووضعه الاجتماعي، مبتسما كعادته ملهما من تابعه وتعرّف على سيرته الاستثنائية.
كانت مدينة سيدي بنور، المغرب، شاهدة على ميلاد زهير، الذي رأى النور في 25 من يناير 1999، سليم الصحة والبدن، نشأ في وسط متواضع، خالط أقرانه وشاركهم شغف لعب كرة القدم في الأحياء الشعبية، عاش طفولة طبيعية إلى حين بلوغه سن السابعة، شهدت حياته منعطفا بفقدانه لبصره إثر ضربة تلقاها من أحد الأطفال الذين كان يلعب معهم، ليصبح الظلام عالمه، فاقدا النظر رغم محاولات أسرته المتواضعة لعلاجه وإعادة النور لعينه.
الإعاقة لم تكسر زهير ولم تنسف شغفه بكرة القدم، مواصلا مزاولة لعبة تعلق بها، متنقلا بين الفرق المدرسية إلى أن التحق للمنظمة العلوية لرعاية المكفوفين وضعاف البصر، مواصلا العمل ومتمسكا بالأمل الذي قاده للمنتخب الوطني المغربي سنة 2014، منضما لمجموعة تمتاز بنجوم في سنه تقريبا، يشاركهم الأحلام والأهداف، الوضع والرغبة في تأكيد الذات، وهو ما ساهم في حسن تواصلهم واتحادهم مع المدربين والمرافقين.
سرعان ما تأقلم سنيسلة وتألق أيضا مع النخبة الوطنية، واضع بصمته الواضحة مع المجموعة، ومساهما بأهدافه العديدة في اعتلاء ترتيب التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2014، كما استمر في تألقه ونجح في تحقيق لقب أمم إفريقيا مع المنتخب المغربي نسخ 2015، 2017 و2019، إضافة لمشاركته في كأس العالم نسختي 2014 و2018، اللتان قدما فيهما مردودا جيدا رغم عدم خروج المغرب بإنجاز يحفظه التاريخ.
التألق والثبات في المستوى لم يشفعا لسنيسلة البروز للمغاربة والعالم، بقدر النسخة الأخيرة لبارالمبياد طوكيو 2020، بطولة حقق فيها المنتخب المغربي للمكفوفين الميدالية البرونزية بمساهمة مباشرة من زهير، نجم المنافسة، إذ ظل اللاعب الوحيد المكلف بمكافأة جهود زملائه، إذ سجل 8 أهداف متوجا كأفضل مهاجم في المنافسة، متفوقا على النجم الأرجنتيني، ماكسيميليانو إسبينولا، الذي سجل 7 أهداف، رغم ترشحيه قبل المنافسة لتحقيق لقب الهداف، لتألقه في الدورات السابقة وشهرته الكبيرة.
البارالمبياد كانت فأل خيرٍ على سنيسلة الذي برز للعامة وبات بعدها بطلهم وملهمهم، وهي المنافسة التي كان سيغيب عنها زهير بداعي إصابةٍ عانى منها واحتاج لمسكنات من أجل اللحاق بالبطولة وتدعيم صفوف المنتخب المغربي، وأيضا لسوء تحضيره مع المجموعة بسبب الظروف التي عاشوها، سواء في المغرب جراء احتجاجهم واستمرارهم في المطالبة بمستحقاتهم، عبر إقامة وقفات قبل أيام من رحلتهم للمشاركة في المنافسة، أو في اليابان نتيجة المناخ المختلف الذي يصعُب اعتياده.
مباراة بعد أخرى خطف سنيسلة الأضواء، بإمكانيات بسيطة ولوازم رياضية متواضعة تمكن من بلوغ هدفه الثامن في المنافسة ويتوج كأفضل مهاجم، سجل أمام أعتد الخصوم بنهم استثنائي مثيرا به انتباه العالم وباقي الخصوم الذين أشادوا باللاعب الذي يعدُّ مفاجأة المنافسة على غرار المنتخب المغربي.
أداؤه الاستثنائي دفع البعض للشك في إمكانية إبصاره، خاصة وأنه كان يجوب الملعب وقدمه تعلم طريق المرمى، وهو ما عزاه اللاعب لاحقا لتمرسه وإدراكه لمساحة الملعب والمسافات المناسبة للتسديد، إلى جانب توجيه الأطر المرافقين الذين يكون دورهم في الملعب تحديد الاتجاه ومكان الخصوم، قائلا في تصريح خاص لموقع “سيت أنفو”: “الجميع يقول إن المكفوف لا يجيد شيئا، يأكل وينام فقط غير قادر على تقديم شيء.. أريد القول إنني مدرك لمساحة الميدان أكثر من المبصرين، وجميع زملائي كذلك، وذلك نتيجة تمرسنا.. كما يتم توجيهنا من المرافقين الذين يحددون لنا المكان الذي نتواجد فيه وأيضا مدى اقتراب الخصوم منا، الأمر صعب ولكن مع المزاولة مرارا اعتدنا وبات ما يظهر للمتابع صعبا عاديا”.
سنيسلة عاد إلى المغرب بطلا وبات حديث المواطنين، لما عاينوه في لاعب أحب وطنه وقاتل لتشريف بلده وكل من يشاركه الهوية، رحل إلى اليابان بطموح تحقيق الميدالية وتحسين وضعه الاقتصادي بمكافأة مالية تخفف من ضنك عيشه، الإنجاز تحقق والوضع لم يتغير، زهير سنيسلة المتزوج والأب لطفلة، لا مسكن له يحفظ أسرته، يقطن مع عائلة زوجته في بيت صغير المساحة، منتظرا الغيث الذي عمل لأجله دون أن ينعم به.
“أنا شخص كغيري ، زوج وأب لبنت إلا أنني لا أملك السكن للأسف.. حققنا الألقاب ولم نحصل على المكافآت المالية التي نستحقها، وآخرها البارالمبياد، وُعدنا بمكافأة محددة من المسؤولين، وعند تحقيقنا للبرونزية فوجئنا بتخفيض كبير في قيمة المكافأة التي كانت أملنا لتحسين عيشنا وتسوية أوضاعنا عند العودة”، تصريح سنيسلة أكد خلاله أن خيبة كبيرة هي تعرض لها عند عودته من اليابان، مشددا على أن إشكال المستحقات ليس قرين البارالمبياد فقط، بل كان منذ سنوات، إذ لم يتحصل هو وزملائه في المنتخب المغربي على مكافآتهم التي وعدوا بها، مشيرا إلى أنهم يتوصلون بالوعود فقط دون صرفٍ للمستحقات التي بات ترديد سيرتها يثير استياءهم وخجلهم، مشددا على أنه لا يستغل الرياضة ولا يريد أن يغتني منها، مصرحا بـ: “أريد فقط أن أعيش حياة كريمة مع أسرتي، لا أريد استغلال الرياضة، أرغب في الحصول فقط على ما استحق، لأنني ولجت اللعبة عن حب وقناعة وليس بهدف ربحي”.
وعاد صاحب الـ22 سنة ليقول: “في الملعب نلعب من أجل المغرب فقط، لا نفكر في مكافآت أو أشياء أخرى، هدفنا هو تشريف المغاربة وملكنا محمد السادس، وذلك ما يدفعنا للمواصلة والاجتهاد رغم ضعف الإمكانيات المسخرة لنا، وأسعد شيء هو توصلنا ببرقية تهنئة ملكية جعلتنا نبدأ التفكير والإعداد للاستحقاقات المقبلة رغم كل التحديات”.
ويضيف اللاعب بحرقة كبيرة: “نعد المغاربة بمواصلة العمل، ونطلب من المسؤولين توفير الظروف المناسبة من أجل الاستعداد للاستحقاقات المقبلة، وأعدهم بأننا سنذهب بعيدا في “بارالمبياد” باريس المقبلة، ولما لا تحقيق الذهبية التي بإمكاننا الظفر بها، نريد فقط اهتماما أكبر وأن تسخر لنا الظروف التي ستسمح لنا بالاستعداد، وجميع زملائي على قدر المسؤولية لتحقيق ما قد يظهر لذا البعض مستحيلا”.
وعلق زهير على تفاعل المغاربة الذي اعتبره مفاجئا، قائلا: “لم أتوقع حقيقة هذا التفاعل الكبير من المغاربة، ثناؤهم وتشجيعهم لنا كان أكبر مكسب ودافع للاستمرار والعمل على تحقيق المزيد من الإنجازات الرياضية، التحديات تبقى مادية بالنسبة لنا، ولن ندخر جهدا.. هناك منافسات قادمة منها بطولة إفريقيا وغيرها من الاستحقاقات المعروفة وغير المعروفة، سنستعد جيدا ونلعب من أجل مواصلة تحقيق الإنجازات وإسعاد المغاربة، النشيد الوطني يعزف للمنتخب الذي ظفر بالميدالية الذهبية، وهذا ما نطمح له لأنه رغم تحقيقنا للبرونزية، شعرنا بالغيرة لعدم سماعنا لنشيدنا الوطني، وسنعمل بهدف تحقيق الذهب في بارالمبياد باريس القادمة”.
وفي رد عن إمكانية عرض حالته على أطباء لاستعادة نظره، قال سنيسلة: “في صغري حاولت أسرتي علاجي رغم الفقر، والآن أنا مقتنع بوضعي الصحي ولا أرغب في إخضاع نفسي لأي علاج، راض بقضاء الله وقدره، حتى عند استلامي لجميع المكافآت لن أحاول استعادة بصري مجددا، أريد فقط أن أحسِّن ظروف عيش أسرتي، وأواصل مزاولة كرة القدم التي أهواها، أحقق الألقاب وأبلغ الأهداف التي أضعها”.
واكتفى زهير بالإفصاح عن أمنيته في ختام تصريحه، “أتمنى أن يكون هناك اهتمام بهذه الفئة (المكفوفين) وبهذه اللعبة، لأننا لا نحظى بذلك، وأكررها أننا نلعب للمنتخب المغربي وللوطن والشعب أولا وأخيرا، نريد فقط أن نشعر بالاهتمام والتقدير ونرجو الله أن تنفرج أزمتنا ويتحسن الوضع الذي سيساعدنا على بذل أقصى ما لدينا”.
وكان الخروج الإعلامي لسنيسلة وزملائه في المنتخب، بعد تحقيق بورنزية البارالمبياد، قد دفع المغاربة لإطلاق حملة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين اللجنة الوطنية الأولمبية بمدّ جميع أبطال البارلمبياد بمستحقاتهم المالية وإنصافهم، خاصة بعد تفشي قصة المنتخب الوطني المغربي للمكفوفين، إلى جانب عدد من الرياضيين الذي أعربوا عن استيائهم من تأخر صرف مكافآتهم، سواء المتعلقة بالبارلمبياد الأخيرة أو المنافسات السابقة، كون بعض الأبطال لم يحصلوا على مستحقات عالقة من سنة 2014، ونداء سنيسلة وباقي رفاقه كان القوة الدافعة للبعض من أجل المطالبة بحقوقه.
في حين، تحدث حارس مرمى المنتخب المغربي لكرة القدم للمكفوفين، سمير بارا، في تصريح خاص، عن زهير سنيسلة، الذي اعتبره من أعز الأصدقاء والمقربين له، ساردا أهم صفاته وواقعة راسخة في ذهنه عاشها معه في اليابان، قائلا: “سنيسلة أو “زويهيغ” كما ألقبه، شخص مجتهد، متواضع ومواظب على صلاته، يحظى بعلاقة جيدة مع جميع اللاعبين والمرافقين، لا يكتفي بالتداريب مع المجموعة فقط، إذ يحرص على التمرن لوحده بعد الحصة لتعزيز لياقته وإمكانياته، وهو غير قدوة لكل لاعب”.
وتابع سمير: “في ختام البارلمبياد كنت متوجها أنا وزهير لمطعم الفندق الذي نقيم فيه من أجل تناول وجبة الغداء، وإذا ألاحظ حارس مرمى المنتخب البرازيلي وهو بجانب اللاعب الأفضل في العالم، ريكاردينيو، يُخبر الأخير بصوت لا يكاد يسمع أن سنيسلة متواجد قربه، هذا الموقف يبقى راسخا بالنسبة لي ويؤكد مدى النجومية التي بلغها سنيسلة، عند تتويجه هدافا للمنافسة”.
وختم حارس مرمى المنتخب المغربي: “سنسيلة بات فخرا لجميع اللاعبين الصاعدين في كرة القدم الخاصة بالمكفوفين، جاء في مرحلة نهاية جيل وبداية جيل حديث، وأنا عاصرتهما معا، وأقر بأن سنيسلة استثناء وملهم للقادمين من بعدنا”.
الكفيف الذي جعل الجميع يبصر ماهية الحياة وسبل بلوغ الأهداف مهما اشتدت الموانع والتحديات، الكفيف الذي أبصر الملعب بموهبته التي تغلبت على إعاقته، فقدَ بصره وتمسك بأمل بلوغ نجاح آمن به في عزّ الضيق، استمر في المحاولة إلى أن حقق أهدافه الرياضية وبات خير بطل ومُلهم، نجاحات لم توازيها مكافآت تريح عيشه، يعود بألقاب ويعمل لأخرى دون تحسن معيشي، ماضيا بطموح وقوده حبّ اللعبة والوطن الذي سعى لتشريفه وإسعاد شعبه، هو لاعب يجتهد ويقدم ما لديه، صامد أمام التحديات راسما ابتسامة لا تفارق محياه، ماضيا في سبيله برغبة دائمة، كشعلة لا تخمد.
تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب
انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية