الحسين نصرالله يكتب: فراقشية الانتخابات ومنطق الهمزة حين يواجه الإصلاح عقلية الريع

كلما همّت الدولة بإصلاح المشهد السياسي وبعث الثقة في العمل العام، نهض من الجهة الأخرى عقل مقاوم يرفض مغادرة مواقعه القديمة، يرى في الإصلاح خصماً لا أفقاً، وفي التغيير خطراً على امتيازاته لا فرصة لوطنه.
ذلك هو عقل فراقشية الانتخابات، الذين لم يتعلموا من التحولات سوى فن البقاء، ولم يروا في مبادرات الدولة سوى موجات عابرة ينبغي امتصاصها لا رياحاً إصلاحية تستحق المرافقة.
فحين أعلنت الدولة مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25، الذي يمنح دعماً مالياً للشباب دون الخامسة والثلاثين، في خطوة صادقة لضخ دماء جديدة في الحياة السياسية، سارع فراقشية الانتخابات إلى قراءة النص بعيون الربح لا بعيون الإصلاح.
لم يروا فيه رهاناً على المستقبل، بل منجماً انتخابياً جديداً يمكن استغلاله لتجديد الواجهة، والإبقاء على الجوهر كما هو.
تحاول الدولة أن تفتح الباب أمام جيل جديد من الفاعلين، بينما يعمل هؤلاء على إغلاقه من الداخل. يريد الإصلاح أن يعيد المعنى إلى التمثيلية السياسية، وهم يسعون إلى الإبقاء عليها تجارة بالمواقع والمصالح. ففي كل خطوة تنظيمية تهدف إلى تطهير العملية الانتخابية، يجدون ثغرة للالتفاف، وفي كل نص قانوني يرمي إلى الإنصاف، يكتشفون فرصة لتدوير الريع وتجميله. هم لا يمانعون في تبني خطاب الإصلاح ما دام لا يمس امتيازاتهم، ولا يهدد شبكاتهم الممتدة بين المال والإدارة والمجتمع المحلي.
في ذهن فراقشية الانتخابات، الشاب ليس طاقة للوطن، بل واجهة مؤقتة للتجميل السياسي؛ يُستدعى فيها الطموح ليُخنق، ويُستغل الحلم ليُباع. ولهذا تراهم، عند كل استحقاق، يختارون أحد فروعهم أو أبناء عمومتهم، أو من تربطهم بهم قرابة قديمة أو ولاء موروث؛ يستقدمونه من بادية منسية أو جبل معزول، ثم يُلبسونه ثوب الإصلاح ويقدمونه للناس كوجه شاب واعد، غير أنه في الحقيقة امتداد للمنظومة نفسها، بل قنبلة انتخابية موقوتة تُزرع في خريطة الأصوات لتفجر آمال الإصلاح وتبدد الثقة في السياسة.
بهذا الشكل، يتحول الدعم العمومي الذي أرادته الدولة رافعة للجيل الجديد إلى غنيمة انتخابية ناعمة، تموّل من المال العام وتدار بعقل السوق. إنهم لا يواجهون الدولة في العلن، بل يتقنون الالتفاف عليها باسمها، ويعرفون كيف يلبسون ثوب الإصلاح ليخيطوا به جيوبهم.
وهكذا، يُفرغ النص من روحه قبل أن يطبق، لأن الصراع الحقيقي لا يدور بين الأحزاب والمرشحين فقط، بل بين مشروع دولة تريد الإصلاح ومنظومة محلية تقاومه حفاظاً على مواقعها، ولو كان الثمن إفساد الإصلاح نفسه.
تتحرك الدولة بإرادة التجديد، بينما يتحرك فراقشية الانتخابات بإرادة الإبقاء؛ الدولة تبني الثقة، وهم يزرعون الشك؛ الدولة تفكر بمنطق المصلحة العامة، وهم لا يرون أبعد من مصالحهم الصغيرة.
ليست المشكلة في النصوص ولا في النوايا، بل في العقلية التي ترفض أن تفهم أن زمن الامتيازات المطلقة قد انتهى. فالإصلاح لا يولد في مكاتب اصحاب القرار حصرا ، بل يحتاج إلى وعي محلي نزيه يسانده، لا من يفرغه من محتواه. الدولة تستطيع أن تشرّع وتموّل وتراقب، لكنها لا تستطيع أن تقنع من لا يريد أن يتغير.
لهذا، لا بد أن نحصن إرادة الإصلاح بآليات واضحة تضمن ألا يتحول الدعم إلى ريع جديد، وأن يُربط التمويل بالنتائج لا بالوعود، في إطار من الشفافية والمساءلة، مع سد منافذ تضارب المصالح واحتكار القرار المحلي. فالإصلاح الحقيقي لا يقوم على النصوص وحدها، بل على مؤسسات صلبة وضمائر نظيفة وشعب يقظ يرفض أن يُستغفل مرة أخرى.
إن الدولة، حين تمد يدها للإصلاح، لا تفعل ذلك ضعفاً بل وعياً. فهي تدرك أن استعادة الثقة في العمل العام تمر عبر استعادة المعنى الحقيقي للسياسة، وأن مصداقية المؤسسات تُبنى بالفعل والنتائج لا بالشعارات والوعود.
فالدولة اليوم لا تكتفي بإصلاح أعطاب الحاضر، بل تؤسس لزمن جديد من الاستمرارية واليقين المؤسسي، تُرسي فيه قواعد الثقة بين الدولة والمجتمع، وتُمهّد لمرحلة سياسية أرقى، يكون فيها الفعل العمومي امتدادًا لرسالةٍ وطنيةٍ لا تنقطع بتغير الوجوه أو الأجيال. إنها تمضي بثبات في بناء نموذجٍ سياسيٍ مغربيٍّ متجدد، يربط الإصلاح بالاستقرار، ويضمن للوطن انتقالًا هادئًا نحو مستقبلٍ أكثر رسوخًا وعدلاً.
غير أن هذا المسار يظل هشّاً ما دام فراقشية الانتخابات يقاومون الإصلاح من داخل المنظومة نفسها، متخفين خلف الولاء، ومحتمين بشبكات المصالح القديمة.
ومع ذلك، فإن التاريخ لا يُكتب بما يريده المفسدون، بل بما تفرضه إرادة الإصلاح حين تصمد وتستمر.
و الدولة التي آمنت بأن تجديد السياسة سبيل لحياة الوطن، وأدركت أن إصلاحها ليس ترفاً مؤسساتياً بل شرطاً لاستمرار الثقة فيه، قادرة مهما طال الطريق، وقد لا يطول ، على أن تتجاوز من يقاومها بمنطق الهمزة والريع.
فإرادة الإصلاح، حين تستند إلى وعي شعبي صادق، لا تُقهر، بل تمضي بثبات لتثبت أن النبل، ولو حورب، هو القوة الوحيدة التي لا تنكسر، وأن دولة تريد الإصلاح بإيمان وذكاء، لن يعجزها أن تُخضع فراقشية الانتخابات لقانون الوطن.
تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب


انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية


