الراحل عبد الرحمان اليوسفي وهوس الصحافة

شاءت الأقدار أن يغادرنا السي عبد الرحمان اليوسفي في نفس الشهر الذي يحتفل فيه العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة وهو من أكبر المدافعين عنها وعن حرية التعبير بل من مؤسسي النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وهذا ما يعني أن هوس السي عبد الرحمان بالصحافة كان كبيرا جدا.

بدأ هذا الهوس، عندما كان أخ السي عبد الرحمان يمني النفس بأن يصبح أستاذا، حيث انتقل إلى مدينة الرباط في الثلاثينيات من القرن الماضي، ليتابع دراسته بثانوية مولاي يوسف، وبعد فترة زمنية دامت بضع سنين، قرر التخلي عن مهنة التدريس بعد أن اكتشف هوسه بالصحافة، فغادر الرباط عائدا إلى طنجة للبحث عن عمل في ميدان الاعلام، حيث التحق بإحدى المطابع المختصة في طباعة الصحف والمجلات.

كانت المطبعة تحمل اسم “إرولا” وهو اسم صاحبها، ونظرا لشطارة أخ السي عبد الرحمان، وتفوقه في استعمال الوسائل والتقنيات الحديثة آنذاك، وجديته في العمل، أصبح عنصرا أساسيا في تسيير تلك المطبعة، وكلما حصل له نزاع مع صاحبها كان يضرب عن العمل، بحكم أنه كان الاختصاصي الوحيد الذي كانت لديه دراية بأسرار وبرمجة تشغيلها.

وقد عاين السي عبد الرحمان، في العديد من المرات، كيف كان يأتي صاحب المطبعة إلى البيت للتفاوض مع مصطفى اليوسفي، بل والتوسل إليه للعودة إلى العمل، وعندما كان مصطفى يتمسك بموقفه، كان يلجأ رب العمل إلى والد السي عبد الرحمان، طالبا وساطته للضغط على مصطفى لإيقاف الإضراب.

بفضل عمل أخ السي عبد الرحمان، أتيحت لعائلته جميعها إمكانية الاطلاع على الجرائد والمجلات من مختلف اللغات، ومنذ ذلك الزمن إلى أخر رمق في حياته، ترسخت لدى السي عبد الرحمان عادة الاطلاع على الجرائد، بحيث أصبحت غرفته مستودعا للعديد من الصحف والمنشورات بالإسبانية والإنجليزية والفرنسية إضافة إلى الإيطالية، منها جريدة فرنسية اسمها “la dépêche Marocaine”.

مرت الأيام والشهور والسنين، ومحطات فاصلة في تاريخ حياة الراحل السي عبد الرحمان، بل حكايات وحكايات، حتى جاء اللقاء مع الصحافة، من خلال رئاسة تحرير جريدة “التحرير” والتي أدار نشرها الفقيه البصري. ففي يوم 14 دجنبر 1959 كان الاعتقال الأول للسي عبد الرحمان بعد الاستقلال، وسيكون بسبب عمله الصحفي داخل الجريدة، التي حجزتها السلطات المغربية ومنعتها من التوزيع بحجة أن افتتاحية ذلك العدد تضمنت جملة تقول “إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك، فإنها مسؤولة أمام الرأي العام”.

يقول السي عبد الرحمان في مذكراته، أنهم تعودو في جريدة التحرير على هذا النوع من الممارسات التي كانت سائدة آنذاك، حيث كانت تمارس رقابة غير قانونية على الصحافة الحزبية بصفة عامة، وعلى الصحافة الاتحادية بصفة خاصة. لكن السلطات الرسمية لم تكتف هذه المرة بقرار حجز الجريدة، ومنعها من الوصول إلى القراء، بل دفعها انزعاجها إلى اعتقال مدير جريدة التحرير الفقيه محمد البصري من بيته بالدار البيضاء، واعتقال السي عبد الرحمان بصفته رئيسا للتحرير من مكتبه بالجريدة، ونقلهم مباشرة إلى سجن لعلو بالرباط.

جاء هذا الاعتقال بناء على رسالة وجهها وزير العدل والأمين العام للحكومة امحمد باحنيني إلى قاضي التحقيق الحمداوي، حيث وجهت إليهم تهم المس بالأمن الوطني للدولة، والإخلال بالأمن العام، والتحريض على العنف.

منذ اليوم الأول من الاعتقال، وبمجرد وصولهم إلى سجن لعلو، دخل السي عبد الرحمان في إضراب عن الطعام، مستغلا وضعه الصحي الهش، نتيجة استئصال رئته اليمنى خلال عملتين جراحيتين بمدينة مدريد، استنفر إضرابه عن الطعام إدارة سجن لعلو نتيجة تدهور وضعه الصحي، واستدعت الإدارة طبيبين للكشف عنه، وهما الدكتور “الجبلي” والدكتور “ليون بن زكين” الذي كان في فترة من الفترات، وزيرا للبريد في الحكومة، فقررا معا نقله على استعجال إلى مستشفى ابن سيناء بالرباط، وفي الجناح الخاص بالمعتقلين داخله، أشرف طاقم من الأطباء المغاربة على متابعة وضعيته الصحية، هم الدكتور التونسي والدكتور مسواك، عضو المكتب السياسي للحزب المغربي الشيوعي، والدكتور العراقي أحمد، الذي سيصبح فيما بعد وزيرا أولا.

بعد كل ما سبق، وسبب ممارسته مهنة المتاعب، سيتم استنطاق كل من السي عبد الرحمان اليوسفي والفقيه محمد البصري، من قبل قاضي التحقيق الحمداوي، الذي كان يلح في سؤاله “ماذا تقصدون بأن الحكومة مسؤولة أمام الرأي العام ؟

حاول السي عبد الرحمان أين يشرح للقاضي، أن المغرب دولة حديثة العهد بالاستقلال، وأن هذا الاستقلال جاء نتيجة تلاحم بين العرش والشعب، حيث انتفض الشعب ضد الاستعمال بعد أن تجرأت سلطات الحماية بنفي الملك.

بعد حصول المغرب على الاستقلال، كان هدف الجميع هو بناء الدولة الحديثة، اعتمادا على مبادئ الديموقراطية وسيادة العدل والقانون، وأن السلط الثلاثة التي تعتمد عليها الدولة الحديثة هي السلطة التنفيذية، والتشريعية والقضائية، مضيفا – السي عبد الرحمان – أن المجتمعات المدنية أفرزت سلطة أخرى تسمى السلطة الرابعة، وهي نابية من قلب المجتمع المدني، تعبر عن مختلف وسائل الإعلام، وأن هناك من يطلق عليها اسم صاحبة الجلالة، لأنها تمثل ضمير الأمة، وسلطتها تنحصر في التعبير عن الآراء المختلفة بما فيها المعارضة للرأي الرسمي، وقوتها تمكن في رأيها الاستشاري دون أن تملك سلطة لتنفيذه.

مرافعة أمام القضاء للسي عبد الرحمان قبل قرابة 62 سنة، بقدر ما هي قوية، بقدر ما تختزل رسالة سامية وقيم نبيلة تلخص تعريف الصحافة ودورها في المجتمع والدولة، وهذا ما يؤكد أن السي عبد الرحمان رحمه الله كان هوسه بالصحافة كبيرا زاد أكثر مع إدارته لجريدة الاتحاد الإشتراكي لسان حزب “الوردة”.


سفيان رحيمي يثير ضجة في مصر

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى