عبد الإلاه حمدوشي: بتوع الأتوبيس!

لأجرب ركوب حافلات مدينة الرباط الجديدة.. اشتريت تذكرة.. صعدت حافلة.. وجلست بمقعد فارغ بجانب رجل متأنق يرتدي بدلة رمادية بربطة عنق حمراء.. على جانبه كان يقف رجل يبدو عليه من خلال ملابسه المتسخة ويديه الخشنتين أنه عامل في مجال البناء، آثر أن يظل واقفا، ويترك كرسيا كان يجلس به لامرأة كانت آخر من صعد الحافلة المتجهة نحو مدينة سلا…

كنت أضع في أذناي سماعات الهاتف للإطلاع على أغنية حديثة الإصدار.. قبل أن تشدني نبرة صوت يقول: “أنتم يا أصحاب ربطات العنق تعيشون الرفاهية، تذهبون صباحا إلى العمل، في قاعات مكيفة وذات أبواب زجاجية تمنع عنكم حتى الغبار”.. لقد كان صوت عامل البناء الذي كان ينظر إلى الرجل الذي بجانبي.. لست أعلم ما هي نقطة بداية حديثهما هذا أو مزاحهما.. قبل أن يرد صاحب ربطة العنق: “صحيح.. لكن لا أحد يمنعكم من تغيير ملابس العمل والتأنق.. أنت لستَ مضطرا لارتداء ملابس كهذه (متسخة) لتقول للعالم إنك “معلم” بنّاء”…

رد عامل البناء: “أنت لا تعرف معنى أن تستيقظ فجرا لتبحث عن الرزق.. من ذا الذي سيهتم لشكله وهو في حالة استفار واستعداد دائم للعمل؟! أن تجلس خلف مكتبك بملابسك الباهضة الثمن هذه.. لا يبرر لك أن تطلب من الآخرين أن يتأنقوا لكي ترضي ناظرك.. ولكنك لن تفهم ما دامت راحة يدك ناعمة نعومة بشرة النساء”.. قالها ثم قهقه عاليا.. وبدوره ضحك المتأنق الذي بجانبي.. ثم قال: “لماذا تركزون دائما على الأيدي الناعمة؟ ألا تعلمون أن هاتين اليدين ناضلتا وتمسكتا بالأقلام ولم تستسلما.. أليس عدلا أن تحصلا على هذه النعومة كمكافأة فيما تبقى من عمر صاحبهما؟.

بقيت أنظر إلى هذا وذاك، حتى نطق شيخ كان يجلس في مقعد خلفي مباشرة، مخاطبا “مول لگرافاطة”: “المشكلة الكبرى يا أستاذ أننا نعمل مهما كان العمل.. ونعود إلى بيوتنا متعبين.. ثم لا نجد حتى كلمة شكر من زوجاتنا.. إنهن لا تعلمن متى نغادر المنزل ولا متى ننام.. نخرج وهن نائمات.. ونعود ليلا وهن كذلك.. هذه الكارثة أخطر من نوع العمل الذي نمتهنه.. فعلى العموم نحن نعمل”.. قال “لمعلم”: “أنا مثلا.. زوجتي ليست هنا في المدينة.. إنها بالبادية.. ولكنها لا تقول لي كلاما لطيفا إلا عندما تطلب مني المال.. ومع تلك الملاطفة.. فالنتيجة الحتمية في النهاية دائما هي فراغ الجيب”.. نطق “مول لگرافاطة” الذي بجانبي: “أنتما محظوظان نوعا ما.. لأن زوجاتكما تحتجنكما.. أنا أعمل وأتعب وعندما أعود إلى البيت أجد زوجتي التي تشتغل في مجال التعليم منهمكة تصحح أوراق امتحانات تلامذتها.. ودائما ما تقول إنه ليس لي الحق -كزوج- في أن أفتح فمي ما دامت لا تطلب مني المال.. كما أنني لم أعد أتذكر كيف هو طعم الطعام الذي يطهى بالمنازل؟!”.

كنت أنظر إلى هذا وذاك بينما أكتفي بسماع صوت الشيخ القادم من الوراء دون أن ألتفت.. قبل أن يقول عامل البناء مخاطبا صاحب ربطة العنق: “اسمع يا أستاذ.. حتى بملابسك هذه.. لست أكبر قدرا منا.. وأظن أنه لو كانت ملابسك ذات فائدة وأفضل من ملابسنا لنفعتك أمام زوجتك”.. رد صاحب ربطة العنق بهدوء.. وكنت أتوقع منه أن يغضب:” لا علاقة لذلك بالزوجة.. هذا مظهر حضاري يعبر عن…”.. قاطعه الشيخ بصوته العالي: “أيها الإخوان.. يبدو أننا معشر الرجال أصبحنا نتساهل كثيرا مع زوجاتنا”.. رد عامل البناء: “ولكن هن نساء طيبات تتحملن حماقاتنا.. وهن دون حيلة”.. قال الذي بجانبي: “دون حيلة!! إنهن أمهات الحيل.. والدليل هو أنك ترسل لها المال وتهمل مظهرك…”.. رد عامل البناء: “رغم كل هذا.. أحمد الله على زوجتي.. فأنا أعي جيدا أن طباعي ما كانت لتتحملها امرأة أخرى غيرها”…

حتى تلك اللحظة.. كنت أقلب بصري بين المتحاورين.. وأحرك رأسي المثقل بهموم وطن متعب وعمليات بحث عن طرق خلاص لست أدري أي واحدة منها سأسلك.. كان يبدو أنهم توقعوا بأنني سأدلي بدلوي في نقاشهم وسأتكلم.. لذلك سكتوا.. وربما خاب أملهم في النهاية.. فقد طلبت من سائق الحافلة التوقف ونزلت.

عندما غادرت الحافلة.. أحسست أن ثمة شيئا ما كان يجب علي قوله.. فقلت بصوت بالكاد أسمعه أنا: “أيهم كان محقا.. ما دام الثلاثة قد أقنعوني؟!”.


أشرف حكيمي يفضح هجوم باريس سان جيرمان

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى