قُبُلات في زمن الحرام

طه لمخير

من منا لا يذكر عبق تلك القبلة الأولى، ربما اختلسها مع حبيبته في فصل فارغ من فصول الدراسة، بين الفسح، خلف أسوار الباب الخلفي، في حديقة عامة مهجورة، لحظات من الحب لحظات من الصفاء لحظات من حب طفولي لا يتكرر بعد ذلك…

من منا لم يقارف هنّات الصبا الجميلة، وغرامياته البريئة التي تبدو بعد فرار الشبيبة طيفا من خيال، وذكرى نحنّ إليها من جدية الحياة بعد تحمل أعبائها ودخول معتركاتها…

كيف غدت قبلة الحب والحياة المزهرة بين عشيقين صغيرين جريمة نكراء تستحق الطرد والتوبيخ…
كيف أصبحنا نعيش بين وحوش مفترسة لا تعترف بحب قبل أن تدمغه أختام المأذون…

ما أبرعنا في النفاق وأسرعنا إلى الإدانة والشجب، لكن فقط عندما يتعلق الأمر بضعيفين هفّقلبهما إلى لثمات الشفاه…
ما هذا التصحر الذي يسيطر علينا،يجعل مشاعرنا جدباء كشوك العوسج،صارمة كسيف النطع،باردة كالخريف الكئيب…
إننا نحب دائما أن نفعل أشياء الحب، نفعلها بفجور وشراهة لكن فقط في الظلام، تحت جنح الليل، نسرع إليها كحيوان جائع ثم نتركها كشبعان يتمطى ويتجشأ، أصابه القيء والغثيان من فرط الأكل…

هي قبلة عابثة عابرة بين مراهقين فرا من عيون الرقيب والواشي إلى خلوة أفسدها عليهما من حرم من حب المراهقين في صباه؛ليرفع تقريره إلى مدير ثانوية بمدينة مكناس فطرد الشتيتان معا…

بعض الصارمين غلاظ الأكباد منا وما أكثرهم؛اعتبرها قضية وطنية، ومعضلة قومية،تحتاج إلى تقويم السلوك وقيم المواطنة ومحاربة الشفاه الفاجرة التي تُقَبِّل والأخرى التي تُقَبَّل…انتظروا، قد يجرها (القبلة)بعد ذلك آخرون إلى معترك السياسة ليتاجر بهاما أمكن، ويعتصر من رضابها أكبر قدر من المصلحة…

إن ما حدث ليس أمرا هينا يا سادة، إن العدوان الذي تسببت فيه القبلة الآثمة جعل ملائكة الأخلاق تنتفض في بلادنا، رغم أنهم لا يحركون ساكنا عندما يَرَوْن ما هو أسخن من القبلات، كالاغتصاب والتحرش في الإدارات العمومية، كالقبلات بين السياسيين و أرباب الأحزاب وهم يتحالفون على الغنيمة، كالحميمية التي باتت تطبع العلاقة بين الإسلاميوالليبرالي وخلفها خيانة الوطن والمواطن…

هؤلاء الأزلام، تُرى من يطردهم من السياسة كما طرد الضعيفان اللذان لم يتصرفا في أموال الشعب ولا في مؤسسات الأمة ومستقبل أجيالها، ولكنهما تصرفا فقط في ملكية شخصية،فمن يلوم إنسانا على حقه في التصرفبشفتيه…

ما هذه الوجوه الصفراء التي تتمعر من ذكر قبلة، يهْوُون في جهنمها سبعين خريفا وأعينهم تدور في رؤوسهم، وكأنها قيامة القُبَل قد قامت في المغرب، القبلات لم تجن على المغرب منذ الاستقلال، بل جنى عليه تخلفنا الأخلاقي الحقيقي، تخلف احترام الوقت، تخلف الإخلاص في العمل، تخلف الرشوة والمحسوبية، تخلف النفاق الاجتماعي، تخلف الاهتمام بالقشور والسفاسف والإعراض عن الأفكار الكبيرة والعلوم المفيدة، القبلة ليست سوى…قبلة، فما كل هذا التهارج والتنظير، والبحث في الأسباب والتحليل، وكأنها قبلة وجمعها قُنْبُلات!!

رحم الله زمنا قال فيه بشارة الخوري أبياتا غناها عبد الوهاب عام 1933، أرسل بها تعزيةلتلميذة وتلميذ طردا تعسفا من ثانوية محمد الخامس التأهيلية بمدينة مكناس بسبب قبلة هزت الرأي العام في المغرب أكثر مما هزه زلزال سياسي، لعل كلمات الخوري وصوت عبد الوهاب تذكرهما أنه قد كان في هذه الأمة العربية التي أصبحت قاسية وجافية إلى أبعد مدى، بشرا يحبون ويشعرون ويقبلون أيضا.

وللمفارقة فإن أبيات هذه القصيدة عادة ما تقع في اختبار الباكالوريا لمادة الأدب العربي ويطلب من التلاميذ شرحها وتحليلها أدبيا، فهل نطرحها هي الأخرى من المقررات لأنها تدعو إلى الرذيلة، ولن نتوقف عن هذا الجنون حتى نطرد قيس وليلى وجميل وبثينة وعنترة وعبلة وطرفة وخولة…ونطرد معهم أبو نواس والمتنبي ونزار، ونأتي على ديوان الشعر العربي كله حتى نستريح تماما من أي شيء يدنس طهارتنا، وإلا فكيف يصف الشاعر القبلة إن لم يكن قد احترق في جحيمها، وكيف يصف المُدام إن لم يكن قد ارتشف من حُبابها، ولذلك فهو يستحق الطرد من باب أولى، يقول بشارة:

جفنه علم الغزل ومن العلم ما قتل
فحرقنا نفوسنا في جحيم من القبل

ونشدنا ولم نزل حلم الحب والشباب
حلم الزهر والندى حلم اللهو والشراب

هاتها من يد الرضى جرعة تبعث الجنون
كيف يشكو من الظما من له هذه العيون

يا حبيبي أكلما ضمنا للهوى مكان
اشعلوا النار حولنا فغدونا لها دخان

قل لمن لام في الهوى هكذا الحسن قد أمر
إن عشقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر


الركراكي يضع آخر اللمسات على لائحة المنتخب المغربي وجدل بسبب حارث

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى