الحمى القلاعية.. كابوس الفلاحيين

في الوهلة الأولى، يبدو دوار أولاد سيدي شنان الشرقيين، الذي يبعد عن مدينة الفقيه بنصالح بحوالي 4 كيلومترات، خاليا من السكان، أبواب موصدة، وصمت رهيب، زقاء الدجاج وحده الذي يكسر صمت المكان.

هدوء سرعان ما انكسر بظهور رجل في الستينيات من عمره، يرتدي جلبابا أسودا، وحذاء باهت اللون، بشرته شاحبة، تتخللها تجاعيد تحكي عن الألم الذي يحاول إخفاءه، يسير بين دروب كانت بالأمس القريب مليئة بقطيع كد في جمعه وتربيته، وأضحت اليوم خاوية إلا من الذكرى.

علامات الحسرة والحزن كانت بادية على محياه، أكدتها خطوات الخيبة التي كان يخطوها داخل ضيعته، التي طليت جدرانها بالجير الأبيض، حدادا على فقدان عزيز. يرفع رأسه بين الفينة والأخرى إلى السماء، وكأنه يناجيها ويشكي لها مصيبته، دون أن ينطق بكلمة واحدة.

الفقيه بنصالح.. بداية المأساة

الحاج المعطي الذي ورث هذه المهنة عن والده، وأفنى حياته كلها في تربية الأبقار، حاول في البداية إخفاء حزنه، لكن تقاسيم وجهه، والدموع التي انهارت فجأة على وجنتيه، فضحت كل شيء، ليجد نفسه مجبرا على الحديث والكشف عن ما بداخله، لعله يستريح من الثقل الذي يحمله فوق كتفيه.

بعد أخذ ورد في الكلام، جلس الحاج المعطي فوق كومة تبن، مرمية داخل الضيعة بشكل عشوائي، وبعدما تنفس بعمق شديد، بدأ يحكي لــ”سيت أنفو” بنبرة حزينة، عن معاناته، وكيف أصبحت ضيعته خالية من القطيع بين ليلة وضحاها.

المعطي وهب حياته لمهنته، اعتاد على الاستيقاظ كل صباح على خوار الأبقار، وصياح الديك، فهو يدخل إلى “الكوري” قبل تناول وجبة الإفطار، ليطمئن على أبقاره، تم يعود إلى منزله من أجل احتساء كوب شاي رفقة زوجته وأبنائه.

يقول الحاج المعطي، إنه ذات يوم من شهر يناير الماضي، دخل كعادته إلى الضيعة، يتجول بين أحواشها، سمع صوتا غريبا، لم يعرف في البداية مصدره، وبعد عمليات البحث، اكتشف أن بقرة تجلس على الأرض، هي التي كانت تطلق بين الفينة والأخرى هذا الصوت المزعج.

ركض الحاج تجاه البقرة، وبدأ يتفقدها بيديه، كان فمها يسيل باللعاب، وبها التهابات على مستوى “الفراقش”، لم يعرف ماذا يفعل، فخرج من الضيعة، لعله يجد شخصا يساعده على حمل البقرة إلى الطبيب البيطري.

بخطوات مسرعة، دخل الحاج المعطي إلى بيته، من أجل إخبار أبنائه بهول ما رأى، فنهض الكل من مكانه، وتوجهوا إلى “الكوري”، من أجل رؤية البقرة، ليكتشفوا أن هناك ثلاث أبقار أخرى مصابة بنفس الالتهابات.

“بوفرقوش”.. الكابوس المزعج

امتناع الأبقار عن الأكل، سيلان فمها باللعاب، وتدهور حالتها الصحية، كان كافيا من أجل إحضار طبيب بيطري إلى الضيعة لفحصها.

يقول الحاج المعطي، الذي يبلغ من العمر 65 سنة، بمجرد أن وطأة قدما الطبيب البيطري الضيعة، ارتابه خوف شديد، وبدأت دقات قلبه تتسارع، حاول أن يساعد الطبيب، لكن يداه كانتا ترتجفان، فقرر الخروج من “الكوري”، وترك أبنائه وشقيقه يساعدون الطبيب، قائلا: “حسيت بقلبي تقبض عليا”.

الفحوصات الأولية التي أجراها الطبيب البيطري على الأبقار، جعلته يشك أن هناك أمرا خطيرا، ما دفعه إلى ربط الاتصال بالمصالح البيطرية التابعة للمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، لإجراء التحاليل المخبرية، لمعرفة نوعية هذا المرض.

يقول الحاج المعطي، إن الأطباء البياطرة الذين حلوا بالضيعة، قاموا بأخذ عينات من دم هذه الأبقار ورحلوا، وبعد مرور حوالي ساعتين تقريبا، عادوا إلى الضيعة، وأخبروه بأن الأمر خطير، ويجب قتل هذه الأبقار لأنها مصابة بفيروس الحمى القلاعية أو ما يعرف بـ “بوفرقوش”.

ليلة بيضاء

الخبر نزل كالصاعقة على الحاج المعطي، لم يستطع في البداية استيعاب الأمر، لدرجة أنه فقد السيطرة على أعصابه، وبدأ يصرخ “كفاش غادي تقتلو ليا البقر ديالي”.

كانت لحظات عصيبة على المعطي، ومؤلمة في الوقت نفسه، شعر وكأن الأرض ضاقت به، كان يجلس على كرسي خشبي ثم يقف على قدميه، أعاد الكرة عدة مرات، كما لو أنه يعيد تمثيل مشهد سينمائي، لم يكن يعي بما يفعل.

سار بخطوات مسرعة تجاه إحدى الأبقار المريضة، ووضع يديه على رأسها، وهو يمسح اللعاب الذي كان يسيل من فمها، وينظر إلي عينيها، كما لو أنه يريد أن يطلب منها أن تتمسك بالحياة، كان منظرا يثير الشفقة، حسب ما وصفه لنا شقيقه، لكن تدخل المسؤولين بالمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، في الوقت المناسب خفف من حجم هذه المعاناة.

وجد الحاج المعطي صعوبة كبيرة في الإمساك بكل تفاصيل تلك الليلة، وضع يده على جبينه، وقال بصوت عال “عندنا الله”، ثم استطرد قائلا: “راه كانو تيخرجو البقر وقلبي تيتقطع”، لم يجد خيارا آخرا سوى أن يترك المصالح البيطرية تقوم بدورها، لأنه كان يعلم بأن ما تقوم به يصب في مصلحته.

يقول الحاج المعطي، إن المصالح البيطرية التابعة لمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية “لونسا”، والسلطات المحلية، لم يتخلوا عنه ولو لحظة، فالكل كان يحاول مساعدته على تجاوز هذه المحنة، وطمأنته بأنه سيتم تعويضه ماديا، خلال الأسابيع المقبلة.

كان الحاج المعطي، يعتقد أن الأمر سيقف عند أربعة أبقار، وأن الموضوع سينتهي هنا، لكنه فوجئ في اليوم الموالي بحضور لجنة مكونة من أطباء بياطرة وأعوان السلطة، ورجال الدرك الملكي، إلى ضيعته، يريدون أخذ عينات الدم من جميع الأبقار التي يمتلكها، من أجل التأكد من صحة القطيع.

صراخ وبكاء يعم المكان

بعد إجراء التحاليل المخبرية، تم التأكد أن هناك أبقار مصابة بفيروس الحمى القلاعية، وبالتالي يجب إتلاف جميع القطيع بما في ذلك الأغنام، مخافة انتشار الفيروس إلى الضيعات المجاورة.

“تمنيت كون غير مت قبل منشوفهم تيقتلو لي البقر ديالي”، عبارة نطقها الحاج المعطي، وأجهش بالبكاء، فهو يحاول إطفاء النار الموقدة بداخله، بهذه الطريقة.

قال الحاج المعطي بنبرة حزينة، إنه لم يستطع نسيان تلك الليلة، الكل كان يبكي ويصرخ، وكأن أحدا من أبنائه توفي، فكلما وضع رأسه على وسادته، إلا وسمع صوت أبقاره وهي تتألم، بعدما تم حقنها بمادة سامة.

شكوك حول التعويضات

غير بعيد عن الحاج المعطي، كان يقف شقيقه سي قدور، متكئا على عصاه، يسمع أطراف الحديث ويتحسر على المصيبة التي لحقت بهما، كان شديد التنهد كمن يحاول إخماد نار بداخله.

سي قدور قليل الكلام، عكس شقيقه، تعبير وجهه ونظراته، كانت كافية لمعرفة كل ما يدور داخله، فهو لم يستطع استيعاب ما وقع لهما، مرض غريب يظهر فجأة، ويتسبب في ضياع القطيع بأكمله.

يقول قدور إنه كان يمتلك هو وشقيقه، حوالي 36 رأسا من الأبقار، والعشرات من الأغنام، وبين ليلة وضحاها فقد كل شيء، وأصبحت ضيعته خالية، كما لو أن جائحة مرت عليها.

جلس قدور على الأرض، وقال والدموع تنهار على وجنتيه، إن المسؤولين بالمصالح البيطرية، لم يتخلوا عنه، كانوا يداومون لساعات طويلة بمنزله، يحاولون طمأنته أن الأمور ستعود كما كانت من قبل، وأنه سيتم تعويضه رفقة أخيه، الشيء الذي كان يعطيه أملا في الاستمرار.

في بداية الأمر شكك قدور في الوعود التي قدمها له المسؤولون عن مكتب “لونسا”، لكن بعد مرور أسابيع فقط، ربطوا الاتصال بهما، وأخبروهما أن تعويضاتهما المادية أصبحت جاهزة، وسيتم منحها لهما.

لم يستطع سي قدور وشقيقه الحاج المعطي، أن يناما تلك الليلة، بحيث ظلا ينتظران بزوغ الفجر، من أجل الجلوس مع المسؤولين بمكتب “لونسا”، وأخذ تعويضاتهما المادية.

ما إن حل الصباح، حتى وجدوا مسؤولين عن مكتب “لونسا” يقفون أمام منزلهم، يرتدون ملابس رسمية، والابتسامة ظاهرة على محياهم، أصر الحاج المعطي علي الضيوف أن يحتسوا معه كوب شاي، قبل الخوض في  الحديث.

بعد احتساء الشاي وسط أحضان “الكوري”، قرر المسؤولون الذين توافدوا على منزل المعطي، الدخول مباشرة في الحديث عن التعويضات، التي رصدتها وزارة الفلاحة لهما، بحيث تم منحهم مبالغ مالية عن الأضرار التي لحقتهما جراء إتلاف جميع الأبقار والأغنام التي كانوا يمتلكونها، والتي تراوحت بين 36 رأسا من الأبقار والعشرات من الأغنام.

المعطي شكك في موضوع التعويضات، لكنه سرعان ما سحب كلامه، بعدما تمكن من أخذ جميع مستحقاته، قائلا “الله يجعل شي البركة”.

في حين قال فريد العمراوي، رئيس قسم الصحة بالمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، إن جميع الفلاحين الذين تم إتلاف حيواناتهم تم تعويضهم، قبل نهاية شهر فبراير، وتم الاتصال بجميع الفلاحين من أجل التأكد بكونهم قد توصلوا بتعويضاتهم المادية.

التعويضات التي قام مكتب “لونسا”، بصرفها مقابل إتلاف 400 رأسا من الأبقار و1559 رأسا من الماعز والأغنام، وصلت إلى 8.785.000 درهم، حسب ما صرح به رئيس قسم الصحة، فهي تخضع لمسطرة قانونية وتقوم على مجموعة من المعايير المنصوص عليها في قرار وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش، من قبيل أصناف الحيوانات، وسنها ونوع الإنتاج الذي تقدمه.

يقول الحاج المعطي، إنه في خضم كل هذه الأحداث، لن ينسى المواقف الإنسانية التي عبر عنها مسؤولوا مكتب “لونسا”، الذين كانوا ينتقلون من الرباط إلى الفقيه بنصالح بشكل يومي، من أجل مساندتهما في هذه المحنة.

كانت فعلا مواقف جد صعبة، ومع ذلك حاول المسؤولون التقرب من الفلاحين، وطمأنتهم بأن الوزارة ستقوم بتعويضهم، لذا يجب عليهم مساعدتهم في القضاء على القطيع، خوفا من انتشار المرض إلى بؤر أخرى.


استنفار لاستئصال المرض  

بمجرد أن ظهرت أولى الحالات المصابة بهذا المرض القاتل، بمنطقة الفقيه بنصالح، وبالضبط بدوار ولاد شنان الشرقيين التابع لجماعة كريفات، جندت المصالح البيطرية ورجال الدرك الملكي والمصالح الأمنية أطقمها، من أجل محاصرة هذا المرض، واستئصاله مخافة انتشاره إلى باقي القطيع الوطني.

يقول المعطي بصوت خافت، إن السلطات الأمنية لم تفارقه ولو لحظة، ظلت سياراتهم ترابط أمام باب منزله، ليل نهار، مخافة وقوع كارثة، لأن الأمر لم يكن سهلا.

يقظة المصالح البيطرية، مكنتهم من القضاء على بؤر الحمى القلاعية الست التي تم اكتشافها بكل من إقليمي الفقيه بنصالح وخريبكة، وضيعة بإقليم سيدي بنور، إضافة إلى ضيعة معزولة بإقليم طنجة وكذا الحسيمة في وقت وجيز، حسب ما قاله رئيس قسم الصحة بـ “لونسا”.

الخوف من انتشار الفيروس القاتل، جعل المصالح البيطرية تقوم بإتلاف الأبقار المصابة، وكذا جميع الحيوانات المتواجدة في الضيعة من أبقار وأغنام، عن طريق حقنها بمادة سامة، ودفنها تحت التراب بعد طلائها بالجير الأبيض، مخافة تسرب المبيدات إلى الفرشة المائية، بالإضافة إلى إغلاق بعض الأسواق الأسبوعية لمدة 15 يوما.

وتمكن المكتب إلى حدود 28 فبراير 2019 من تلقيح مليونا رأس و708 ألف و561 رأساً من الأبقار ضد مرض الحمى القلاعية، وذلك منذ انطلاق الحملة الوطنية التذكيرية لتلقيح الأبقار ضد هذا المرض في فاتح يناير 2019.

انتقال المرض إلى الإنسان

لم يستطع المعطي إخفاء تخوفاته، من انتقال المرض إلى أبنائه، لاسيما أن أبنائه الصغار يقظون معظم أوقاتهم داخل الإسطبل، يلعبون ويركضون هنا وهناك، وهم يداعبون الخرفان.

يقول المعطي، إن دماغه لم يعد قادرا على التركيز، لدرجة أنه فقد السيطرة على أعصابه، وبدأ يصرخ “واش ولادي حتى هما مراض”، ليتدخل الأطباء البياطرة الذين كانوا يتواجدون في عين المكان، ويشرحوا له أنه لا داعي للخوف، لأن المرض لا ينتقل إلى الإنسان، ولا يشكل عليه أي خطر.

رغم احتكاك الفلاحين بهذه الحيوانات فهذا لا يشكل عليهم أدنى خطر، فالمصالح البيطرية حينما تمنع دخول وخروج الفلاح من الضيعة، فهذا خوفا من انتشار الفيروس إلى باقي القطيع، حسب ما قاله العمراوي.

بوفرقوش أو الحمى القلاعية

سي قدور والحاج المعطي لم يسبق لهما أن سمعا بهذا المرض، رغم أنهما أفنيا حياتهما في تربية الأبقار والماشية، يقولان إنه مرض غريب.

الحمى القلاعية، أو “بوفرقوش”، هو مرض يصيب الحيوانات وخاصة الأبقار، ويعتبر من بين الأمراض العابرة للحدود، ينتقل بسرعة بين الحيوانات التي تدخل في خانة الحفريات، أي التي تتوفر على “الفراقش”.


وقال أحد الأطباء البياطرة بالمنطقة، الذي عاين أول حالة مصابة بمنطقة الفقيه بنصالح، إن هذا المرض ظهر سنة 2015 بالمغرب، بحيث تم ضبط بعض البؤر وتمت السيطرة عليها في وقت وجيز عن طريق التلقيح.

ولخص الطبيب البيطري، أعراض هذا المرض، بارتفاع درجة الحرارة، وتورم على مستوى شفتا الحيوان المصاب، بالإضافة إلى  ظهور الفقاعات على الأقدام، ما يسبب للحيوانات صعوبة في المشي والحركة.

يقول المعطي إن الأطباء البياطرة لم يتوانوا لحظة في تقديم النصائح والشروحات للفلاحين، عن هذا المرض الذي حول حياتهم إلى جحيم لا يطاق، بعدما وجدوا أنفسهم دون سابق إنذار عرضة للتشرد والضياع، لكن التعويضات التي تم منحها لهم جعلتهم يتنفسون الصعداء.

ونحن نودع الحاج المعطي ظهرت ابتسامة خفيفة على محياه، ابتسامة تلخص آماله وطموحه، رغم الفاجعة التي حلت به وبعائلته الصغيرة.

الحاج المعطي قال بنبرة كلها تفاؤل وتحد “غادي نعمر الكوري مرة أخرى بحالا معمر شي حاجة طرات”.

 


تساقطات ثلجية ورياح عاصفية تضرب هذه المدن المغربية

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى