قصص وحكايات.. مشاهد على هامش فاجعة قطار بوقنادل
على بُعد كيلومترات قليلة من واقعة بوقنادل، حيث خروج القطار رقم 9 عن سكته صباح أمس الثلاثاء، الذي خلف سبع قتلى وعشرات الجرحى حسب حصيلة أولية، يقفُ العشرات على غير المعتاد لانتظار الطاكسي المتواجد قرب فندق فرح بوسط مدينة الرباط لتنقل إلى القنيطرة بدل القطار الذي اعتادوا على ركوبه.
الطريق إلى بوقنادل
إحدى الطالبات التي تنتظر دورها تحت حر الشمس، وتضعُ سماعات على أذنها خرجت للتو من حصة لها في الكلية، تحكي أنها تلقت اتصالات لكنها لم تفهم ما يقع إلا عند دخولها إلى حسابها في “الفايس بوك”، بعد أن خرجت من حصتها قائلة باستغراب: “خلعوني قوة الإتصالات”.
بعدها بثوان، رفع رجل أربعيني رأسه من أمام هاتفه ليوجه لنا خطابا كأنه لا يأبه للموت، كان “من المفروض أن أستقل ذات القطار من الرباط إلى القنيطرة، الذي انقلب بمحاذاة قنطرة بوقنادل، لكن بسبب مسؤولي المباشر الذي حضرت عنده لقضاء بعض الأغراض الإدارية، تأخرت عن ركوبه”، لتنطق امرأة تحمل بعض أمتعتها متنهدة: “إني أقوم بالتنقل يوميا من القنيطرة للرباط عبر القطار”.
بعد دقائق طويلة، تحول الصف الطويل إلى فضاء للنقاش حول فاجعة القطار، حينها نطق رجل في خمسينيات من عمره يمتلأ نشاطا وحيوية، تدخل عدة مرات لفك الخلافات حول الصف، قائلا: “اللي مكتابة راه مكتابة” و”ما تمشي غير فيما مشاك الله”، جهز نظراته، وبدأ يقرأ علينا آخر تفاصيل الفاجعة التي وصل عدد ضحاياها في ذلك الوقت ست وفيات.
عدد القتلى المعلن عنه رسميا استفز شابة في مقتبل العمر، بعد اطلاعها على الصور المتداولة في الفايس بوك، قائلة: “واش هاذ الحادثة يموتو فيها غا ستة زعما”، إنه “حادث كبير”، اكتفت صديقتها الملتصقة بها بتحريك رأسها بالإيجاب، كأننا لا نرتاح إلا بالفواجع إذا عظمت.
خيم الصمت قليلا، بعد توقف الصف عن التحرك لمدة غير معقولة، فالناس لم يغضبها التأخر إنما أزعجها توقف الصف عن الحركة، ومع اقتراب موعد الركوب احتج رجل ذو شعر أبيض على عدم تنظيم المغاربة لأنفسهم، قائلا: “راه ما يمكنش نتقدمو إلا بقينا هكا”، فجأة لمحت زميلين في المهنة، قادمين من الدار البيضاء، يسعيان للوصول إلى بوقنادل.
اختار صاحب الطاكسي أن يأخذ من كل واحد منا 15 درهم بعد أن استفسر عن ثمن الرحلة إلى القنيطرة، رغم أن البعض يقصد بوقنادل التي يبلغ ثمن الرحلة إليها 5 دراهم، حينها لمح السائق سيارة إسعاف، فأفادنا بأن جل سيارات الإسعاف الخاصة والعامة بالرباط اتجهت إلى بوقنادل منذ الصباح لنقل ضحايا الفاجعة.
مقهى الأمم
بالقرب من قنطرة بوقنادل التي توقف عندها القطار ساجدا دون أن يلمسها، تقبعُ مقهى الأمم كما هو مدون على واجهتها، أما النادل لم يقدم لها إسما سوى مقهى بوقنادل بعد تردد، كأنها معلمة لا تحتاج لإسم أو سؤال غريب من شخص غريب، الأمم أصبحت مأوى الزملاء الذين تحلقوا على هواتفهم وحواسبهم.
يُسارع النادل بابتسامة لم تفارق محياه إلى الاستجابة لطلبات مرتادي المقهى من أمنيين وصحفيين، وأغلبها تناديه بالقول: “واش عندك بريز” ليدلهم على مكانه، ولا حديث يعلو في المقهى إلا واقعة قطار بوقنادل، فيما البعض منغمس في متابعة مباراة المغرب وجزر القمر فوق أرضية تُشبه إلى حد كبير التنمية ببلادنا.
رابط العشرات من المواطنين على مشرفة من الفاجعة يتابعون الحدث أولا بأول، يرون خطوات الدرك الملكي، والقوات المساعدة، وتحقيق الشرطة العلمية و التقنية للدرك الملكي، وتحرك الآليات، وعلى هامش الهامش من هذا المشهد عمد شاب إلى جمع مصروف الحياة عبر بيع “الزريعة” و “الفواكه الجافة”.
المستشفى
بعد ذلك انتقلت برفقة زميل يحب المهنة بشغف، إلى المستشفى العسكري محمد الخامس الذي عرف بابه الرئيسي تحولا غير اعتيادي كأنه قاعة للصحفيين، حركة متسارعة أمام المستشفى، خرجت سيدة لا علاقة لها بالحادث، وتضع ضمادات على يديها وتحمل فحصا بالأشعة، حكت أن أختها في فرنسا هي من حدثتها عن الحادثة خاتمة كلامها: “الله يخلي لينا المخزن، هوما اللي تيضربو تمارة”.
مع بداية خيوط الليل فوق سماء الرباط، وبداية قطرات المطر، سيارة إسعاف تابعة لمصحة خاصة ترابط بجانب الرصيف، تحمل مصابا جراء فاجعة بوقنادل، فضل القدوم من مستشفى مولاي عبد الله بسلا التابع لوزارة الصحة، إلى المستشفى العسكري بالرباط لتلقي العلاج، وبعد برهة غير يسيرة سُمح له بالولوج.
توالت قطرات المطر، كأنها تطردنا من ليلة طويلة تنتظر أهل الضحايا وذويهم الموزعين على مستشفيات الرباط وسلا، حينها لمحتُ شابين في مقتبل العمر هموا مغادرين المستشفى العسكري، همس أحدهما في نبرة خافتة بعد سؤالنا: “تبرعنا بالدم وهذا أقل ما يدار”.
تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب
انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية