أهملتهم الدولة ونبذهم المجتمع.. كورونا تعمق ألم “سجناء” الأمراض النادرة بالمغرب – فيديو

وفاء بلوى

أزقة ضيقة بالكاد تسمح بالمرور، تحف جنباتها دور صفيحية، لفظت سكانها في استراحة نهارية ليسعوا في الأرض، أو ينعموا ببعض من دفء شمس أكتوبر الخجولة، التي تتسلل بين شقوق حيهم الصفيحي بمدينة تمارة، قبل أن يعاودوا الإيواء إلى مساكنهم عند المساء، وإلى واقع هش تفضحه الأسقف القصديرية، والجدران التي ملت الطلاء، وبدأت تقشره عن جلدها تقشيرا.
بيت وحيد في الحي ظل يحتفظ بأحد ساكنيه داخله كما يفعل كل يوم طيلة عشرين عاما، بسبب مرض نادر ألم بأمين منذ ولادته وجعله يحتمي بالملابس الثقيلة والجدران البالية لألا تحرق أشعة الشمس جلده، في انتظار حلول الليل وطلوع القمر.

شمس وفقر وكلام الناس
“لم أنعم يوما برؤية البحر، ولا بالذهاب إلى المدرسة، أمضيت حياتي بأكملها في البيت.. أي حاجة كنبغي نديرها فحياتي كيقولو لي الشمس عليك”، بهذه الكلمات وصف أمين، في حديثه لموقع “سيت أنفو”، سنين حياته التي قضاها حبيس الجدران، إثر إصابته بمرض “أطفال القمر” منذ ولادته، وكيف تكالب عليه المرض والفقر و”كلام الناس” والخوف في نظراتهم، سيما خلال مرحلة الطفولة، حين تجرع مرارة النبذ من خلال منع الجيران أبناءهم من مشاركته اللعب، أو حتى الاقتراب منه، خوفا من عدوى مرض غير معد.
في هذا الصدد توضح الدكتورة خديجة موسيار اخصائية الطب الباطني وأمراض الشيخوخة، ورئيسة الائتلاف الوطني للأمراض النادرة بالمغرب طبيعة مرض أمين، بالقول إن اسمه العلمي جفاف الجلد المصطبغ Xeroderma pigmentosum وهو مرض جيني نادر، يفتقد المصاب به للآليات التي تمكنه من محاربة أشعة الشمس، وعكس الإنسان السليم فالمصاب بجفاف الجلد المصطبغ لا يكون قادرا على إعادة إصلاح التلف الذي تحدثه الشمس ببشرة الإنسان، ما يؤدي إلى ظهور حروق في المواضع المعرضة للشمس، تتحول إلى أورام سرطانية، فضلا عن أضرار أخرى تلحق بعيون المصاب.
ما يعمق جراح امين، حسب حديثه، هو خوضه هذه الحرب وحيدا، ما يجعل رحلة البحث عن العلاج محفوفة بمخاطر المضاعفات، ومن التنقل بين البيت والمستشفى بوجود أشعة الشمس قطعة من الجحيم، ولا يد ممدودة لتقديم أدنى مساعدة له، سيما وأن والده توفي قبل سنوات، ووالدته اضطرت إلى الخروج للعمل كمساعدة في البيوت لتسد رمق الأفواه الجائعة التي تنتظرها في “الكاريان”، و توفر ما يمكن توفيره من أجل شراء المرهم الواقي من الشمس الذي يحتاجه أمين بشدة حتى داخل البيت بسبب الأشعة فوق البنفسجية. “ما عندك ما تدير، ما عندك حتى شي وسيلة باش تتعالج واخا غير الدوا… كاين غير الكريم ديال الشمس وغالي بـ230 درهم وكيدي ليا أقل من شهر وبعض المرات ما كنقدرش نشريه”، يروي طفل القمر.
كل ما يعانيه الشاب العشرين يزيد من وطأته غياب أي تغطية صحية يمكن أن تخفف من تكاليف المرض على الأسرة، سيما أن أمين يحتاج اليوم لعملية جراحية لاستئصال ورم أسفل عينه، لتقيه فقدان البصر بشكل كلي، بعد أن فقد عينه الأولى جراء مضاعفات جفاف الجلد المصطبغ.

سجن قضبانه سخرية الناس
من الحي الصفيحي بمدينة تمارة توجهنا نحو حي شعبي لا يقل اكتظاظا منه، وبالتحديد بمنطقة الحي الحسني بالدارالبيضاء، تلبية لنداء الطفلة فاطمة ذات التسع سنوات، المصابة بمرض نادر من نوع آخر. فللطفل حلم ملائكي، إلى جانب الشفاء، أن تحظى بأصدقاء يتفهمون طبيعة مرضها دون أن يسخروا من حالها.
“حيت كندير ليكوش وكنمشي عوجة كيبداو يضحكو عليا” هكذا تسربت الكلمات من جوف فاطمة وهي تحاول بابتسامة محتشمة إخفاء الغصة والألم النفسي الذي يبدو أن وقعه أشد وطأة من الألم العضوي، حتى أن تركيزها على حركات يديها المرتبكة وهي تمسك الميكروفون و تجنبها النظر في عيون طاقم “سيت أنفو”، لم يبددا من ألمها شيئا، رغم الحماس الذي أبدته قبل بدأ التصوير، ما جعل والدتها جميلة تتدخل لتكمل سرد تفاصيل حياة فاطمة.
وتقول جميلة: “فور وضعي لابنتي بمستشفى الحي الحسني أخبرني الأطباء أنها مصابة بمرض نادر يدعى Spinabifida (السنسنة المشقوقة).. عرفوا المرض من الثقب الموجود أسفل ظهرها، والكاشف عن أمعائها، لغياب 3 فقرات من عمودها الفقري”.
السنسنة المشقوقة، كما تعرفها الدكتورة خديجة موسيار، عبارة عن شق على مستوى العمود الفقري وينتج عن ذلك خروج محتوى النخاع الشوكي وظهوره على شكل كيف أسفل ظهر المواليد الجدد من المصابين.
وتعود جميلة لتسترسل في الحديث عن كيف غير مرض صغيرتها فاطمة حياة الأسرة، وأرغمها على ترك عملها كمنظفة من أجل التفرغ لرحلة علاج ابنتها الممتدة منذ 9 سنوات، والتي لم تنته إلى اليوم، وكيف أن زوجها صار يحرص على ألا يحظى بعمل قار بأوراق رسمية، ولا بتسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي CNSS، حتى يتسنى للأسرة الاستفادة من نظام المساعدة الطبية RAMED سيما وأن نوبات المرض الفجائية تنتاب فاطمة وتفقدها وعيها دون إنذار مسبق، والمال لا يكون متوفرا دائما. “ملي غادي نمشي ندي بنتي مغيبة راه ماغاديش يستقبلوني CNSS ماعندها ماتدير ليا، خاصك تخلصي حتا تعوضها لك، RAMED أنا أحسن ليا من هاد الشي كامل هي فاش كيخرج راجلي من الخدمة”، تستطرد جميلة.
ويبدو أن خطة الأسرة في تدبير التطبيب لفاطمة قد أتت أكلها، واستفادت فاطمة في سن الرابعة من عملية جراحية لسد الثقب في ظهرها، تبلغ قيمة تكاليفها 3 ملايين سنتيم بفضل نظام المساعدة الطبية RAMED، ولو أن العملية بحسب جميلة قد شابتها بعد “التجاوزات”، وتضيف: “أدخلوا ابنتي لغرفة العمليات من أجل إجراء عملية جراحية على مستوى الرأس لأنها كانت تعاني أيضا من مشكل في الرأس… وبعد مضي 3 ساعات من الانتظار أخرجوا ابنتي وقد أجرت عملية على مستوى العمود الفقري، وكل هذا دون أن يحصل الطبيب على موافقتي ولا إمضائي”.

المال لا يمنع المعاناة
توجهنا إلى أحد الأحياء الهادئة بمدينة الرباط، لنلتقي بطفل آخر وأسرة أخرى تعيش على وقع مجابهة المرض النادر.
واستقبلنا عند الباب الطفل عبدو بضحكة طفولية وبكل حيوية، إلى حد أننا لم ندرك أنه الطفل المصاب بمرض نادر قبل الخوض في الحديث مع والدته فنة، التي وضعتنا في الصورة، وحسب كلامها فالأطباء أنفسهم لم يتمكنوا من اكتشاف المرض وتشخيصه بسهولة، سواء في المغرب أو في فرنسا.
وتقول فنة، في حديثها لموقع “سيت أنفو”، إن عبدو ولد طفلا عاديا لا يعاني من أي مشكل واستمر كذلك إلى حدود شهر ونصف قبل أن تصيبه نزلة برد أدخلته المستشفى لمدة أسبوع، تلقى خلالها علاجا مكونا من مضادات حيوية إلى أن تماثل للشفاء، لكن الرحلة بحسب فنة لم تتوقف هنا، وإنما للتو بدأت، فعند بلوغ عبدو الشهر الخامس بدأت تظهر عليه علامات الجفاف وتكرر دخوله للمستشفى بسبب الجفاف، واستمر الحال على هذا الشكل إلى أن فكرت طبيبته في احتمالية وجود مرض نادر على مستوى الكليتين، وأوصت الأبوين بالتحقق من صحة هذا الاحتمال عن طريق استشارة الأخصائيين بفرنسا.
وتزيد فنة قائلة إنها حملت رضيعها إلى فرنسا، وعند استشارة طبيبه هناك نفى إصابة كليتي عبدو، لكنه لم يكتشف المرض الذي يعاني منه، واستمرت نوبات الجفاف مع عبدو إلى أن بلغ عامه الرابع، وأصيب مرة أخرى بمرض في الصدر، لم يكن تخطيه سهلا، لكنه نبه طبيبة عبدو في الرباط إلى احتمال جديد، يتمثل في إصابة الصغير بمرض التليف الكيسي، وذلك ما تأكد فعلا.
ولفهم مرض عبدو بشكل أدق تقول الدكتورة خديجة موسيار إن مرض التليف الكيسي Mucoviscidose هو مرض نادر يؤدي إلى انسداد قنوات الرئتين والكبد والبنكرياس، بسبب سماكة المخاط عند المصابين به.
من جهتها تعي فنة والدة عبدو هذا المضاعفات جيدا، وتسعى جاهدة لتجنيب ابنها عيش هذا السيناريو، وتقول إنها تخاف على مستقبل ابنها نظرا لصعوبة مرضه، مضيفة “مع التقدم في السن يزداد المرض صعوبة، وتزيد الحالة تدهورا، فدائما ما أفكر وأتساءل إذا ما كان ما أقوم به كافيا أم علي بذل المزيد من الجهد”.
وتشير فنة في ذات الحديث إلى أن فيروس كورونا عمق معاناة الأسرة، فمن جهة تعيش رعبا حقيقيا نظرا لأن جسد عبدو يتفاعل مع أي ميكروب أو فيروس بشكل أعنف من عموم الناس الأصحاء، وبالتالي تكون المضاعفات والأعراض أسوأ، ومن جهة أخرى فالإغلاق المفروض جراء الجائحة حرم الأسرة مراجعة الطبيب، سيما وأنها تتابع حالة ابنها خارج أرض الوطن.
تكلفة العلاج أيضا باهضة، فهي تتراوح بين 3000 درهم و20000 درهم شهريا، إلى جانب حصص الترويض اليومية، التي يحتاجها الطفل للتخلص من المخاط، وتبلغ تكلفتها في أحسن الأحوال 70 درهما للحصة، حتى يتسنى للمريض العيش بشكل عادي. أما الأدوية المستخدمة في علاج عبدو غير متوفرة في المغرب، وحتى المتوفر منها غير معوض عليه. وتقول الأم المكلومة: “ماديا حاليا راني قادرة ولكن نهار يحتاج ولدي المضاد الحيوي ديال مليون و2 مليون ما عرفتش واش غادا نقدر، علما أني ما معوضاش عليه، وأعتقد أن الأمر صعيب على العائلات ومع الكوفيد… ماشي فقط المستشفى ما مستاعدش يستقبل هاد الحالات، وإنما حتا العلاج ماكاينش”.

منظومة الصحة مريضة
غياب العلاج والتعويض عنصران تكررا على لسان المرضى وعائلاتهم، ما جعلنا نراسل وزارة الصحة لنقل معاناة عبدو وفاطمة وأمين، والحصول على صورة شمولية عن واقع الأمراض النادرة بالمغرب، وجاء الرد كتابيا نظرا، لما اعتبرته الوزارة “الحالة المتعلقة بالجائحة”، والتي منعت من لقاء مباشر بحسب الوزارة.
وفي هذا الصدد، كشفت وزارة الصحة عدم توفرها على إحصائيات دقيقة حول عدد الأمراض النادرة وعدد المصابين بها في المغرب.
وعن غياب الأدوية والتأمين أوضحت وزارة الصحة في ردها أن بعض الأمراض ما تزال علاجاتها لم تطور بعد، والبعض الآخر غير متوفر في المغرب بسبب عدم تسجيل المختبرات للعلاج بالمغرب.
وفي ذات السياق، يكشف الدكتور محمد عليوة، الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للصحة، في حديث لموقع “سيت أنفو”، أن المنظمة العالمية للصحة، تضع الأمراض النادرة ضمن قائمة الأمراض التي من المفروض تتبعها، إلى جانب وجوب اعتبار الأدوية التي تعالجها على أنها أدوية أساسية ومجانية.
ويضيف الدكتور عليوة أن “على وزارة الصحة أن تدمج هذه الأمراض في قائمة أمراض التتبع الأساسية، والتي يجب على الوزارة أن تسهر على تتبعها عن قرب..”.
وفيما يخص الإحصائيات، يرى الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للصحة أنه على الوزارة المعنية أن تقوم ببحث ميداني لجرد أنواع الأمراض النادرة الموجودة بالمغرب، وتحديد الأمراض التي تتواجد بشكل أكبر، ثم بعد ذلك دراسة لائحة الأمراض المرصودة وإحالتها على مصالح التأمينات.

التأمين التكميلي فاقد للوعي
على ضوء رد وزارة الصحة حول توفر بعض الأدوية المستعملة في علاج الأمراض النادرة، ولمعرفة ما إذا كانت التأمينات التكميلية تعوض عن هذه الأدوية، توجهنا إلى مقر هئية مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي، وهي هيئة أحدثت لتحل محل مديرية التأمينات والاحتياط الاجتماعي، ومن مهامها مراقبة مقاولات التأمين وإعادة التأمين ووسطاء التأمين، فضلا عن مراقبة أنظمة الاحتياط الاجتماعي: صناديق التقاعد، تعاضديات الاحتياط الاجتماعي والهيئات المسيرة للتأمين الإجباري على المرض.
ويقول يونس اللماص، المسؤول بالهيئة في حديثه لموقع “سيت أنفو” ، إن مقاولات التأمين ما لم تشر إلى استثناء أدوية وعلاجات الأمراض النادرة في عقد التأمين، فهي ملزمة بالتعويض عنها، “حالات الاستثناءات وحالات عدم الضمان من الواجب أن تكون مكتوبة بخط واضح، وتكون مكتوبة بشكل صريح”، مشيرا إلى أنه في حال عدم تنفيذ مقاولة التأمين لالتزامها، فمن حق المؤمن له اللجوء إلى وسائل الطعن كالوسيط في حل نزاعات التأمين، وكذا هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي التي من مهامها البث في شكايات المؤمن لهم.
وأكد يونس اللماص على ضرورة قراءة عقد التأمين بتمعن وترو من قبل المؤمن له قبل توقيعه، وكذا شدد على أهمية إدلاء المؤمن له بالمعلومات الصحيحة حتى لا يسقط عنه حقه.

حل ترقيعي
معاناة وجراح وألم نفسي وبدني، تصحبه تكاليف ترهق كاهل أسر المرضى، ولتخفيف هذه المعاناة، تقترح الدكتورة خديجة موسيار، رئيسة الائتلاف الوطني للأمراض النادرة، أن يخضع المواليد الجدد لاختبارات طبية تكشف عن وجود الأمراض النادرة، ما من شأنه تشخيصها في وقت مبكر، وتجنب مضاعفاتها، أو التخفيف منها على الأقل. مضيفة: “3 أيام بعد ولادة الطفل، يجب إخضاعه لاختبار الكشف عن الأمراض عبر أخذ نقطة من قدم الرضيع، نخضعها للتحليل بحثا عن 5 أمراض على الأقل”.
وفي ذات السياق، تقول الدكتورة موسيار إن زواج الأقارب يساهم بشكل كبير في ظهور الأمراض النادرة ذات الأصل الجيني في المغرب، وتقدر عدد المصابين بأمراض نادرة في بلدنا بما يزيد عن مليوني مريض، معظمهم لا يشيخ لأن المرض يتمكن منهم قبل تمكن المشيب.


قبل مواجهة بركان.. صدمة جديدة تدفع جماهير اتحاد العاصمة لمهاجمة الاتحاد الجزائري

whatsapp تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب






انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية




زر الذهاب إلى الأعلى