رجال منكسرون ونساء مقهورات وأطفال مضطهدون.. المعنفون في الحجر -روبورتاج فيديو
وفاء بلوى
صمت مطبق، وشوارع خالية إلا من أشخاص مقنعين يسارعون الخطى خوفا من عدو غير مرئي يتربص بالجميع، هكذا كان المنظر العام ونحن نغادر مدينة الدار البيضاء باتجاه سيدي بنور، في أحد صباحات فترة الحجر الصحي الباكرة، لنسمع صرخات أضناها الصمت، وأبت إلا أن تخرق جداره.
كانت جميع البيوت تحت طائلة الخوف من جائحة مجهولة المعالم، موصدة الأبواب والنوافذ في وجه فيروس كورونا، غير أن فيروسا مخيفا آخر تسلل لبعض من تلك البيوت الموصدة، وأذاق ساكنيها مآس مرة في قلب المساكن التي يفترض فيها الأمان.
حجر يعمق الجرح
“كان يمضي الليل بأكمله مستيقظا، ويجبرني على السهر معه، مهددا إياي بغرس مسمار في رأسي إن أنا استسلمت للنوم”. هي كلمات ترويها “أميمة” (اسم مستعار) ذات 22 ربيعا، وتحكي بحسرة كيف تم دق آخر مسمار في نعش حلمها الوردي بالحصول على زوج وتكوين أسرة وفضاء خاص بها، وكيف أجبرت على تمضية أيام دون نوم في بيت زوجها بالدارالبيضاء، قبل أن يحملها وطفلها الذي لم يتجاوز الثالثة إلى بيت والدها بسيدي بنور، كسلعة فرغ منها وأعادها لذويها.
بجسد ينتفض وكأنه يعيش قصة العنف من جديد، كانت تحاول أميمة ضبط إيقاع أنفاسها، وثني يديها عن الارتجاف من أجل الاستمرار في سرد معاناة بدأت بعنف جسدي ونفسي بالدارالبيضاء، وتطورت لعنف اقتصادي، بعدما استفاد زوجها من مساعدات صندوق كورونا، ورفض إعالة طفلهما الوحيد الذي يشكو مرضا لم تقدر أميمة بعد على معرفة ماهيته، لعدم امتلاكها ثمن الكشف والتحاليل، “لا أعرف ما يعانيه ابني، إنه مريض، يبكي كثيرا، وألمس ورما أسفل ظهره، لكني لا أمتلك ثمن الكشف، وزوجي يرفض أن يمدني بأي سنتيم رغم استفادته من مساعدة صندوق كورونا”.
تسترسل أميمة في حديثها لموقع”سيت أنفو”، وتقول إن الحجر الصحي عمق جراحها، سيما أنها لا تمتلك رخصة التنقل الاستثنائي، ما منعها إلى جانب الخوف من مبارحة بيت والدها، ومحاولة طرق أي باب يمكن أن يعيد لها ولصغيرها حقهما في مساعدات منحت لتستفيد منها الأسرة بأكملها، وليس رب الأسرة فقط “كنت أرغب في التبليغ عما أعانيه، لكن الحجر الصحي منعني، خفت أن أغادر البيت دون ترخيص، بيد أن صبري نفذ، وتشخيص مرض ابني لم يعد يحتمل التأجيل.. أحتاج فقط أن أعالج ابني”.
في حمى كورونا
جلست “أمل” (اسم مستعار) مطأطأة الرأس تكفكف دموع كبريائها المجروح، بعد أن جردت من ممتلكاتها، وطردت من بيت الزوجية في عز الحجر الصحي رفقة أبنائها، لتنقلب حياتها من ربة أسرة ذات متاع ومواش، إلى لاجئة في بيت والدتها، تنتظر أن يكون ما سيجود به شقيقها كافيا لإطعام الجميع.
بصوت مرتجف، ويدين ترتعشان وكل واحدة منهما تمسك الأخرى كأنها تحاول تهدئتها وحثها على التماسك، تقول “أمل” إن زوجها استغل جائحة كورونا من أجل طردها دون خوف من رد فعلها، أو من لجوئها للقضاء قصد حصولها على حقوقها المسلوبة، “باع ما كنت أملكه من مواش، وطردني رفقة طفلين قائلا: إنه زمن كورونا لن تحصلي على شيء”، مشيرة إلى أنها اليوم تعاني الأمرين بسبب عدم إنفاق الزوج على طفليه، وكذا بسبب المصير المجهول الذي تواجهه، سيما أنها أمضت ست سنوات وهي تعنف من قبل زوجها، صابرة ومصطبرة عله يتغير، ويحيد عن سلوكه العنيف، لكن طردها من بيت الزوجية خلال فترة الحجر الصحي أجهض كل آمالها.
عنف صامت
بعد حديثنا مع لكل من أميمة وأمل عدنا أدراجنا باتجاه البيضاء، لنلتقي بضحايا من سكان العاصمة الاقتصادية، عاشوا بدورهن تحت سقف واحد مع المعنف، وعمقت جائحة كورونا والحجر الصحي من مأساتهن.
تواصل موقع “سيت أنفو” مع عدد من النساء بينهن أطر وموظفات وحاملات شواهد عليا، سردن قصصهن والعنف الذي تعرضن له، والذي وصل حد إحداث كسور في بعض الأحيان. جل المعنفات كن قادمات من مدن أخرى للحصول على وظيفة في الدار البيضاء، فانتهى بهن المطاف متزوجات بأشخاص عنيفين، وبعيدات عن أهلهن وذويهن.
كان العامل المشترك بين هذه الحالات هو الخوف من انتشار خبر تعرضهن للعنف، ونظرة المجتمع المحيط بهن بعد معرفة هذا السر، ما دفعهن للاعتذار في آخر اللحظات قبل موعد التصوير.
شهود أبرياء
الأطفال لم يسلموا من العنف خلال الحجر الصحي، رغم أن الملاحظ من قبل الجمعيات التي تواصل معها الموقع هو أن الأطفال في أغلب الحالات خضعوا لعنف نفسي أكثر منه جسدي، وهذا ما تثبته حالة “فاطمة” (اسم مستعار) الأم الأربعينية، التي فتحت قلبها لموقع “سيت أنفو”، لتروي جزء من معاناتها وابنتيها مع زوج وأب معنف سبق وطعنها، قبل أن ينتقل خلال فترة الحجر الصحي إلى بيع ملابس بنتيه، والمساعدات الغذائية من عدس ودقيق وسكر من أجل ابتياع الأقراص المهلوسة “القرقوبي”، وكذا تعنيف والدتهما أمام أعينهما وتهديدها بالطرد من البيت.
“وهبتني إحدى السيدات ألبسة رياضية من أجل بناتي، لكن زوجي باعهم لشراء القرقوبي”، تروي فاطمة. الأمر تكرر أيضا مع قفة رمضان، إذ قام زوجها ببيع السكر والعدس والشاي، وفي إحدى المرات خلال الحجر الصحي، تقول السيدة، “عنفني وحاول طردي من البيت عند الثانية صباحا، ابنتي الصغرى بدأت تبكي وتطلب منه أن يتوقف”.
انكسار رجل
العنف خلال فترة الحجر الصحي لم يستثني الرجال، المتهم الأول والأخير بالعنف. إذ تعددت الطرق التي عنف بها الرجال خلال هذه الفترة، فحسب الحالات التي تواصلت معها موقع “سيت أنفو”، اتخذ العنف أشكال جسدية، إضافة إلى حالات هجرت فيها الزوجات فراش الزوجية كنوع من الضغط في سبيل تحقيق مبتغى ما، أو مغادرة بيت الزوجية وترك الزوج وحيدا محروما من دفء الأسرة، غير أن معظم الحالات اعتذرت عن التصوير خوفا من أن يزيد الظهور للعلن الطين بلة، والمشاكل الزوجية تعقيدا.
“صرت أفضل أن أخرج للشارع وأجابه كورونا، على أن أمكث في البيت واسمع كلامها.. لقد طعنتني في رجولتي بالقول أني صرت شيخا لا أصلح لشيء، ودائما ما تضغط علي لتحصل على المنزل في اسمها”.
هكذا خرجت الكلمات من جوف “عبد الرحيم” (اسم مستعار) مصحوبة بغصة تستشف من نبرة صوته، فيما عيناه تحكيان قصة انهزام أمام زواج ثان يراه فاشلا لكنه مضطر للاستمرار فيه من أجل طفله الذي لم يتجاوز الثانية، سيما وأنه سبق وذاق علقم الطلاق مرة، وخبر معاناة الأطفال بعد انفصال والديهم.
روى عبد الرحيم تفاصيل ما عاشه خلال فترة الحجر الصحي لموقع “سيت أنفو”، ويقول إن زوجته دائما ما كانت تحرص على استفزازه وتهديده باتخاذ خليل، مع الإبقاء عليه حليلا صوريا لتقدم سنه، مشيرا إلى أنها تحاول الضغط عليه من أجل الحصول على المنزل والمال، لضمان عدم حصول أبنائه من الزوجة الأولى على أي تركة في حال غادر إلى دار البقاء.
وضع تفاقم حسب عبد الرحيم بعد أن أغلقت المقاهي التي كانت ملاذه من مشاكل البيت، ووجد نفسه وجها لوجه مع عنف زوجته النفسي والجسدي أيضا، “في أحد أيام الحجر الصحي رمتني بكؤوس وحاولت ضربي، ثم بلغت عني السلطات على أساس أني أنا المعنف وليس الضحية، على القانون أن ينصف المرأة لكن ليس على حساب الرجل، يجب أن يكون هناك عدل بينهما من أجل إنقاذ الأسرة”، يختم المتحدث.
عنف يستمر
بشرى عبدو رئيسة جمعية التحدي للمساواة والمواطنة في تصريح لموقع “سيت أنفو”، تقول إن جمعيتها تلقت عددا من الاتصالات من طرف ضحايا معنفين خلال فترة الحجر الصحي بينهم رجال، لكن عدد النساء كان الأكبر.
وفي هذا الصدد، أوضحت عبدو أن العنف المنزلي خلال الحجر الصحي تضاعف بشكل كبير، فبعد أن كانت جمعية التحدي للمساواة والمواطنة تستقبل حوالي 200 حالة عنف طيلة السنة، ارتفع العدد إلى ما يناهز 600 حالة خلال أشهر مارس وأبريل وماي، مشيرة إلى أن قلة الموارد، وتوقف الرجال والنساء عن العمل جعل العنف يظهر بشكل أكبر، سيما أن الأزواج صاروا ملزمين بتمضية اليوم بأكمله في البيت، ما خلق مشاكل من العدم انتهت في الغالب بتعنيف النساء، وأحيانا الأطفال والرجال.
وأكدت بشرى عبدو أن أكثر الحالات التي ترددت على الجمعية كانت حالات تعرضت لعنف اقتصادي، ثم جسدي، وبعده نفسي وجنسي.
وفي ذات الحديث، أوضحت عبدو أن تنامي ظاهرة العنف خلال الحجر الصحي، طرح مشكل غياب دور الإيواء، مشيرة إلى أن النساء اللاتي طردن خلال هذه الفترة من بيت الزوجية لم يجدن مكانا يأويهن.
عقبة التبليغ
كشفت رئاسة النيابة العامة من خلال دورية حول قضايا العنف ضد النساء، أن النيابات العامة بالمحاكم المغربية سجلت في الفترة الممتدة ما بين 20 مارس و20 أبريل ما مجموعه 892 شكاية تتعلق بمختلف أنواع العنف ضد النساء، وحركت الدعوى العمومية في 148 قضية، ما يعني انخفاض عدد المتابعات بـ10 مرات.
وفي سياق متصل، ترى منظمات حقوقية وجمعيات مهتمة بقضايا المرأة أن هذه الأرقام لا تعكس واقع ما عاشته النساء خلال فترة الحجر الصحي، وإنما مردها إلى صعوبة التبليغ في ظل الظروف التي فرضتها الجائحة.
وقالت رجاء حميد إحدى المساعدات الاجتماعيات بجمعية التحدي للمساواة والمواطنة إن الأرقام التي كشفت عنها رئاسة النيابة العامة شهدت تراجعا بسبب عدم تمكن النساء التبليغ عما حدث لهن.
من جهتها قالت بشرى عبدو رئيسة الجمعية إن أغلب النساء اللاتي تعرضن للعنف، وجدن أمامهن عقبة ولوج منصات التبليغ سواء لعدم امتلاك رفاهية الولوج للأنترنيت، أو بسبب الأمية، مشيرة إلى أن التبليغ كان يمكن أن يكون أسهل في حال تبنى المغرب طريقة دول أجنبية، من خلال جعل الصيدليات والأسواق مراكز للتبليغ بحكم سهولة الوصول إليها، وبقائها مفتوحة في وجه العموم طيلة فترة الحجر الصحي.
وفي ذات السياق، نبهت فيدرالية رابطة حقوق النساء في بلاغ لها إلى أن النساء واجهن معيقات حدت من إمكانية التبيلغ، تتمثل في الولوج إلى خدمات الشكايات الإلكترونية والهاتفية التي أطلقتها رئاسة النيابة العامة.
تابعوا آخر الأخبار عبر واتساب
انضم إلينا واحصل على نشراتنا الإخبارية